لا حديث اليوم في كل المنابر الإعلامية والقانونية, الوطنية منها أو الدولية إلا عن تبعات ربيع الثورات والذي شهده العالم العربي بدرجات متفاوتة من أجل إرساء دولة الحق والقانون والمؤسسات والمواطنة في اطار مجتمع ينعم فيه الجميع بالأمن والحرية والمساواة والعيش الكريم. من أهم تبعات الثورات العربية بل وأخطرها, التدفق الهائل واللامحدود من القضايا علي ساحات المحاكم, هذا التدفق كان نتاجا طبيعيا لفتح الصندوق الأسود أمام ملفات سرية وقضايا مهملة لسنوات بفعل فاعل, كما أساء البعض فهم الحرية والديمقراطية واعتبروها فرصة سانحة لتصفية حسابات شخصية, فكان هناك سيل من القضايا التشهيرية والدعاوي الكيدية وفتح باب التخوين والتشكيك علي مصراعيه, فكان لابد من وقفة جدية لإرجاع الأمور إلي نصابها وتجاوز حالة التخبط الواضحة في فهم حدود الحرية وتطبيقاتها. في ظل هذا الوضع الاستثنائي, اضطلع القضاء بمسئولية تاريخية وأخلاقية في حماية الحقوق وإرجاعها لأصحابها وتبرئة المظلوم ورد الاعتبار, ويقف الإعلام جنبا الي جنب مع القضاء لتحقيق تلك الغاية السامية باعتبار الإعلام شريكا للقضاء في خدمة الوطن وفي إعلاء قيم الديمقراطية وإصلاح منظومة العدالة. إن وحدة الغاية التي تجمع بين القضاء والإعلام تحدت كل الخلافات والتوترات التي سادت العلاقة بين هاتين السلطتين والتي كانت نتيجة طبيعية لاختلاف منطق كلاهما في العمل, فالقضاء يعمل في صمت ويعتمد علي عنصر الوقت لإظهار الحقيقة والوقوف علي جوهر القضية, في حين يكسر الإعلام حاجز الصمت والسرية ويخترق عنصر الزمن للحصول علي السبق الصحفي. لقد تزايد اهتمام وسائل الإعلام بتغطية القضايا التي تهم الرأي العام وتكون في الغالب ذات ارتباط بالقانون والمحاكم وشئون العدالة بصفة عامة مما جعل الإعلام فاعلا أساسيا في تشكيل وجدان المواطنين وبرز كسلطة رابعة فاعلة ومهمة, لذلك أصبح وجود إعلام قضائي متخصص ضرورة ملحة لكي تكون الرسالة الإعلامية ضمن القواعد والضوابط القانونية وبعيدة كل البعد عن الإثارة والخوض في الأعراض دون وجه حق, وهذا ما يتحقق معه التكامل والتوازن بين سلطة القضاء وسلطة الإعلام وتتم من خلاله إزالة سوء الفهم وإذابة الجليد المترسب بينهما عبر سنوات طويلة. فكرة الإعلام القضائي تفترض مسئولية مزدوجة علي عاتق القضاء والإعلام, فالقضاء ملتزم بما جاء في الدستور من ضرورة إتاحة المعلومة بكل شفافية والتفاعل الإيجابي معها في إطار حق المواطن في المعرفة منعا لسياسة التكتم والتعتيم واحتكار المعلومة القانونية والقضائية, كما علي المحاكم أن تعين قاضيا مكلفا بالتواصل مع الإعلام وشرح القضايا الشائكة وتنوير الرأي العام, مع الاحتفاظ بالسرية المفترضة في بعض مراحل الدعوي, وعلي القاضي المكلف بالتواصل أن يكون علي دراية تامة بالمجال الإعلامي منعا لأي صدام. من أجل إنجاح فكرة الإعلام القضائي المتخصص وتحقيقها لغايتها الأساسية وهي المواءمة بين شفافية المعلومة ومصداقية الخبر, يتعين علي القضاء تبني برنامج تكويني من خلال إتاحة الفرصة لعدد من الإعلاميين والصحفيين المهتمين بالشئون القضائية والقانونية للتكوين العملي التطبيقي علي يد قضاة ممارسين ذوي خبرة و تجربة لتعريفهم بحدود مساحة النقد المباح والبحث في إشكالية التوفيق بين سرية الإجراءات القضائية وحق المواطن في المعرفة وتحديد الفرق بين نشر نص وثيقة قضائية وبين الاقتصار علي نشر مضمونها, والتعريف بكيفية إيجاد توازن بين حق المواطن في الإعلام وقرينة البراءة وكذلك حدود الحياة الخاصة عند الشخصية العامة ومناقشة الضوابط القانونية والأخلاقية التي يجب علي الصحفي التحلي بها في أثناء تحرير الخبر الي غير ذلك من الاشكاليات التي تفيد الإعلامي وترقي بعمله الي مستوي يخدم القضايا المطروحة ويبني جسورا من التواصل البناء مع المؤسسات القضائية ومع الرأي العام الذي هو ضمير الأمة. أما الإعلام فتتخلص مسئوليته في ضرورة المعرفة الجيدة بالقانون وآلياته كإحدي الأدوات اللازمة للتحقيق الصحفي والمتابعة الإعلامية المقروءة والمسموعة في بعض القضايا الحساسة والتي يتشكل فيها وجدان المواطنين, ويتعين كذلك علي المؤسسات الإعلامية استحداث أقسام قانونية متخصصة لترسيخ الثقافة القانونية والحقوقية والعمل علي إعداد دليل علمي وتطبيقي لمساعدة الصحفيين المهتمين بالقضايا القانونية في أداء مهامهم علي أحسن وجه, كما يجب علي الإعلام ونقابة الصحفيين وكل المؤسسات الإعلامية إقامة دورات مهنية مكثفة للإعلاميين المتخصصين في الشأن القضائي لوضع حدود لما هو مباح أو محظور في إطار حرية الرأي والإعلام و مبدأ العلانية. رغم الاختلاف بين القضاء والإعلام في طريقة عمل كل منهما, ورغم أن كلا السلطتين لم يخلقا للعمل معا, إلا أن وحدة الغاية والهدف وهي ترسيخ الديمقراطية وحماية العدالة والحفاظ علي المصالح العامة جعلت أمر التناغم بينهما ضرورة حتمية وأصبح تفادي التصادم بينهما هو إحدي الرهانات الاساسية لمرحلة ما بعد الربيع العربي وأهم الأولويات العاجلة والضرورية لإصلاح منظومة العدالة وضمان سيادة دولة الحق والقانون وتحقيق مصلحة الأمة