فور الإعلان الأمريكى عن إيقاف العمل باتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية المتوسطة والقصيرة مع روسيا، أعلن الرئيس الروسى بوتين قرارا مماثلا، ترافق مع قرار لوزارة الدفاع الروسية بزيادة مدى الصواريخ النووية، إلى جانب الإعلان عن بدء إنتاج أسلحة روسية جديدة، مع التأكيد على أن روسيا لن تنجر إلى زيادة كبيرة فى الإنفاق العسكرى. كانت الولاياتالمتحدة قد لوحت أكثر من مرة باعتزامها إلغاء اتفاقيات للحد من التسلح وقعتها مع الاتحاد السوفييتى، على أساس أن الظروف قد تغيرت، ولم تعد بحاجة إلى تكبيل نفسها باتفاقيات مضى أوانها ودوافعها، فى الوقت الذى توسع فيه حلف الناتو بالزحف شرقا نحو الحدود الروسية فى أوروبا، وهو ما أثار غضب روسيا التى هددت بإجراءات مضادة، وسط انزعاج دول الاتحاد الأوروبى من تنامى النشاط العسكرى لكل من روسياوالولاياتالمتحدة قرب حدود بلدانها. كان ترامب قد أعلن عن نيته خفض الإنفاق العسكرى وسحب بعض القوات الأمريكية المنتشرة فى أكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم، وتقليص الإنفاق الدفاعى الذى كان قد تجاوز 600 مليار دولار، لكنه وجد نفسه مدفوعا إلى اتخاذ قرارات عكسية، ورفع الموازنة العسكرية لتتجاوز 700 مليار دولار، وتبنى سياسة التطوير الشامل للجيش الأمريكى، فى وقت يعانى فيه الاقتصاد الأمريكى أزمة حادة ومزمنة، ولا ينبغى تحميله المزيد من الأعباء، وإذا كان صقور البنتاجون ومعهم مستشار الأمن القومى جون بولتون من أشد المتحمسين لتوسيع النشاط العسكري، فإن الدوافع الأمريكية باعثها الأول هو المخاوف من التقدم السريع للقوى الناشئة وعلى رأسها الصين، التى باتت قريبة من عرش الاقتصاد العالمي، بينما تتقدم روسيا عسكريا وسياسيا حتى باتت على أعتاب الحدود الأمريكية بالوجود فى كوباوفنزويلا، بعد أن ساد الاعتقاد أن روسيا لم تعد تشكل تهديدا للمصالح والطموحات الأمريكية. هكذا لم يكن القرار الأمريكى وليد انفعال من ترامب، وإنما يعكس الرؤية الأمريكية لمستقبل لا يبدو آمنا، وأن عليها أن تقوم بعمليات استباقية تؤكد استمرارها كقوة عسكرية واقتصادية تفرض كلمتها على العالم، وتبديد التصور الذى تولد عن قرار انسحابها من سوريا وأفغانستان، وهو ما يبدو متناقضا مع الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، فالقوات التى كانت موجودة فى شرق الفرات السورى وقاعدة التنف أعدادها محدودة للغاية، وكانت مجرد وجود رمزى يمنع تقدم القوات المعادية من ملء الفراغ الناجم عن هزيمة تنظيم داعش، لكن تلك القوات لم يعد لوجودها مبرر، وخصوصا أنها لن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها فى حالة نشوب معركة جدية، قد تكون محتملة مع القوات الإيرانية أو السورية، ولم تؤثر مطالبة إسرائيل وأصدقاء الولاياتالمتحدة فى قرار الانسحاب من سوريا أو حتى تأجيله، خصوصا مع تعرضها لبعض الهجمات، وعليها إما أن تزيد أعدادها لتكون قادرة على الرد أو تسرع بالانسحاب لتجنب الخسائر وتصويرها بأنها مهزومة. استعادة الهيبة العسكرية الأمريكية كانت مطلوبة فى هذا التوقيت، خاصة أن لديها مهمة معقدة فى فنزويلا، وعليها أن تبدو أكثر مهابة من أى وقت مضى، لتسقط حكم الرئيس مادورو من دون قتال، لأنها لن تتحمل التكلفة السياسية والمعنوية لعجزها عن الإطاحة بحكم مادورو، وتنصيب جوايدو الذى أعلنت الاعتراف به. وتبدو روسيا أكثر ثقة واطمئنانا من الولاياتالمتحدة، فقد أعلنت عن منظومات صواريخ تنتمى لجيل أحدث، تتفوق بسرعتها الهائلة والقدرة على المناورة، إلى جانب أسلحة جديدة من طائرات وغواصات وأسلحة إلكترونية، ولهذا دخلت على خط الأزمة فى فنزويلا، التى تعد الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وهبطت طائراتها الإستراتيجية فى مطاراتها، وأطلقت صافرات تحذير من استخدام القوة ضد فنزويلا، ووصفت الإقدام على هذه الخطوة بأنها كارثية، وهو ما دفع دول الاتحاد الأوروبى وأمريكا اللاتينية إلى إطلاق نداءات التسوية السلمية ونزع فتيل الحرب فى فنزويلا. إن سباق التسلح الذى تريد الولاياتالمتحدة إطلاقه يرمى إلى الحيلولة دون أن تفقد هيمنتها، لكن هذه الغاية تبدو مستحيلة، فالعالم يتغير بأسرع مما تريد الولاياتالمتحدة، ولا يمكن لإدارة ترامب أن تعيد الماضى الاستعمارى القديم، ويبقى الأمل فى أن يؤدى سباق التسلح إلى ردع متبادل يحول دون اندلاع حرب لا يتمناها أى طرف، لكنها قد تباغت الجميع، سواء لخطأ فى الحسابات أو لإغفال الواقع أو بسبب ارتطامات غير مقصودة، لكنها واردة بسبب فرط القوة وتفريط العقل. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد