عبروا جهامة صحراء نيفادا المترامية حتى يصلوا إلى ركن يدعونه «وادى الموت»، وتوجهوا إلى سفوح سلسلة جبال جرداء صلدة تلوح فى الأفق، بعدها فتشوا عن ركنٍ مطويٍّ بين هذه الجبال يوجد به «ثقب الشيطان». وهناك، كانوا مهيئين بأدوات بحث وثياب غطس وأنابيب أوكسجين وكشَّافات قوية، فهذا الثقب المكنون بين حائطين صخريين من حوائط الجبل، لم يكن إلا بركة مياه سوداء مستطيلة بحواف صخرية متعرجة، عرضها لايتجاوز مترا وثمانين سنتيمترا، وطولها لايزيد على الخمسة أمتار ونصف المتر، عندها نزلوا إلى الماء مُحاذرين، فتحت سطح هذا الثقب الأسود، كان حوض مياه جوفية يغور بعمق تسعين مترا، وتتراكم فى جوفه ظلمات عشرين ألف سنة من العزلة. فى هذه العزلة الظلماء أضاءوا أنوارهم بكل قوتها، وهيأوا أدوات جمع العيِّنات وآلات التصوير المتطورة، سبحوا متنقلين بين جنبات الحوض الجوفى بحثا عنها، وعندما لمحوها صوروا، وصوروا بسرعة، ونجحوا فى الحصول على عينة، شاكرين الحظ الحسن الذى أنعم عليهم بكل ذلك منها، فهى أسماك قليلة العدد جدا، وصغيرة بحجم أصابع طفل، وليست مُتاحة لعين أى غطاس عجول، أو عدسة كاميرا تتلكأ. إنها سمكة "الجرو pupfish"، إحدى أندر سمكات الأرض، لم يتبق منها فى مياه كوكبنا إلَّا مائة سمكة بالغة، وقد استطاع نوعها أن يُعمِّر فى هذه البيئة المعزولة، عزلةً شبه مطلقة، لما كان يُقدَّر بعشرين ألف سنة، مما يطيح بقانون استقر طويلا فى أدبيات علم الأحياء وقناعة علمائه، قانون يقول بأن تجمُّع الكائنات صغيرة العدد، معزولة عن مُكوِّنات شبكة الحياة المتواشجة، لا يُمكِّنها من البقاء طويلا. فكيف استطاع نوع هذه الأسماك أن يُعمِّر كل هذه السنين، فى عزلة «وادى الموت»، فى حوضٍ جوفيٍّ معتم، تحت جبل أجرد، ولامُتنفَّس لها إلا «ثقب الشيطان»؟ استنفر السؤال المُحيِّر عقل وهمة العالِمين «مايكل ريد وكريج ستوكويل» اللذين قادا الفريق البحثى إلى ثقب الشيطان، راجعا ماحصل عليه الفريق من صور، وحللا البيانات الوراثية للعينة النادرة من هذه الأسماك الصغيرة ذات الزرقة المعدنية الخلابة، فتوصلا إلى نتيجة أطاحت بما سبق تداوله عن فترة عيش هذه الأسماك والزمن المُقدَّر لاستمرارها. تبين أنها عاشت أقل كثيرا مما كان محسوبا، وأنها ستنقرض أبكر بكثير مما سبق توقُّعه. العِلم لايزعم أبدا احتكار أى حقيقة، ويُراجع نفسه دون توقف، ومراجعته تتغذى بكل إضافة تَنشُد التدقيق، والتدقيق لا يجعل تنبؤاته مُرجَّحة الحدوث فقط، بل يغذى الحدْس الإنسانى والاستشراف أيضا: فما من جماعة محدودة العدد مقارنة بمن تنفصل عنهم فى محيطها، بأى لون من ألوان الانفصال، إلا ومصيرها الانقراض، وبشكل أفدح: التحلُّل والتلاشى!. فهل كان جابرييل جارثيا ماركيز على وعى بهذا القانون العلمى عندما كتب تحفته الأدبية «مائة عام من العزلة»؟.