عندما تستيقظ دولة ذات يوم على إحصائيات مخيفة، أمثال أن ثلث المجتمع تقريبا يتجاوز عمره ال 65 عاما، وأن البلاد ستتحول بحلول عام 2065 إلى مجتمع شديد الشيخوخة عندما ترتفع نسبة هؤلاء إلى 40٪ من إجمالى تعداد السكان، فإن ردة فعلها بالتأكيد ستكون أى شئ، ماعدا اعتبار الأمر فرصة إيجابية للتنمية. لكن اليابان قامت بذلك فعلا، رغم تحذيرات صندوق النقد الدولى الأولية من أن تآكل القوى العاملة فى المجتمع اليابانى سيمثل ضغطا هائلا على اقتصاد البلاد ، بل وقدمت لشعوب العالم المتقدم، الذين يعانون المشكلة ذاتها تقريبا، نموذجا رائدا يمكن الاقتداء به. فاليابان دولة تعى جيدا قيمة البشر، وجدوى الاستثمار بهم، لذا رأت أنه بإمكانها تحويل نقطة ضعفها إلى نقطة قوة، إذا استطاعت تبنى برنامج متميز للرعاية الصحية يضمن لها استمرار مواصلة مواطنيها لحياتهم بنفس اللياقة المعتادة، وتأدية أعمالهم بكفاءة. فأعلنت عام 2000 عن نظام للرعاية الصحية خاص بكل من تتجاوز أعمارهم ال 65 عاما، يقوم على فكرة توفير رعاية صحية طويلة الأمد لتلك الشريحة المجتمعية ، فضلا عن أنشطة مختلفة تزيح عنهم شبح الوحدة، كتقديم حفلات غداء جماعية ، ودروس للرياضة التأملية والأعمال اليدوية، وحتى ورش لرسم وتلوين الأظفار. وتقوم الدولة بتحصيل اشتراكات إجبارية من كل من يتجاوز عمره ال 40 عاما، لتمويل ذلك البرنامج، على أن ترتفع قيمة الاشتراك قليلا، ما بين 10٪ إلى 30٪، بالنسبة للمستفيدين الحقيقيين من خدمات البرنامج. فكانت النتيجة أن متوسط عمر الفرد فى اليابان ارتفع ليصل إلى 85 عاما، متفوقا فى ذلك على دول مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وكندا. واستطاعت طوكيو أن تعلن بكل ثقة عن كونها «شعبا بلا تقاعد»، أى لا يتقيد فيه المواطنون بسن معينة للتقاعد، بل يواصلون أعمالهم ماداموا أنهم قادرين على العطاء. وتجاوز الأمر ذلك، عندما دعت وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية أخيرا إلى قمة بعنوان « مجتمع الشيخوخة الصحى.. آسيا - اليابان فى طوكيو»، تم خلاله استعراض تجربة طوكيو مع الرعاية الصحية، وكم المعلومات الهائل التى يقدمها ذلك القطاع ، الذى يشترك فيه أكثر من 127 مليون شخص، تراكمت معلوماتهم وبياناتهم على مدار السنوات الماضية، وما قد يتيحه ذلك من فرص استثمارية هائلة. وتعهدت الحكومة اليابانية بفتح ملفات مواطنيها الصحية أمام الجهات البحثية وشركات الأدوية للاستفادة من التجارب السريرية لبعض الأفراد مع أمراض بعينها ، ولكن بعد حذف أسماء أصحابها بالطبع. وفى إطار هذا تمت دعوة كبرى الشركات العالمية، وحتى الناشئة ، فضلا عن خبراء الرعاية الصحية وصناع القرارات السياسية، للاطلاع على كل هذا، مما أسفر عن انطلاق الكثير من المبادرات والشراكات الدولية. كما شاركت نحو 20 شركة فى مسابقات ومنافسات حملت عنوان «الصحة والشيخوخة الرقمية عالية الجودة». وفى هذا الصدد، أشارت مجلة «فوربس» الأمريكية إلى بعض الشراكات التى امتزجت فيها الرعاية الصحية مع التكنولوجيا شديدة التطور، كتطوير جهاز يتم تركيبه فى جسم الإنسان وتوصيله فى نفس الوقت بجهاز التليفون المحمول ، قادر على معرفة توقيت امتلاء مثانة الشخص، وتحذيره عبر هاتفه بضرورة التوجه إلى دورة المياه على الفور، فضلا عن وجود أجهزة أخرى قادرة على تقدير مدى حاجة الإنسان الملحة لبعض خطط الرعاية الصحية كالقيام بنشاط بدنى معين ، أو الخضوع للعلاج النفسى، أو ابتكار عصا قادرة على تعديل وضعها لحفظ اتزان من يتكئ عليها طوال السير. هذا وأكثر ليس كثيرا على شعب مثل الشعب اليابانى، استطاع على مر التاريخ تقديم دروس عملية للعالم فى قهر المستحيل ، وتحويل أى كبوة تعترض مسيرته إلى قوة دفع هائلة تقفز به إلى آفاق أعلى.