لم يكن عمود الإسلام فى الأمجاد أو الفتوحات الكبرى التى تحققت، وإنما عموده فى المفتاح الذى وضعه أمام أيدى الناس ، ليلجوا به إلى عالم جديد كل الجدة، مختلف كل الاختلاف عما كان سائدًا فى العالم قبل الإسلام . هذا العالم الجديد ، مفتاحه الأمن والأمان الذى يجب أن يبذله المسلم للمسلم ولغير المسلم.. والوفاء بالوعد والعهد والميثاق، للمسلم ولغير المسلم ، والإصرار على الأمان الذى يجير به المسلم غير المسلم بل والمشرك، وفيًّا ملتزمًا بمقتضياته حتى يبلغ المستجير مأمنه . لم يكن من الإسلام العلو فى الأرض، وإنما فى التمسك بهذا العمود الذى عاش به الإسلام، والإمساك بحبله الصحيح وبذلك «المفتاح» البسيط الملىء بالثقة والروح والأمان. عمود الإسلام الذى غير واقع الدنيا ؛ هو اتجاه الإنسان إلى خالقه بقلبه وكيانه، وبكلياته وجزئياته .. وهذا الاتجاه الصادق لا يتغير ، لأن الله عز وجل لا يتغير. بهذا العمود توطدت علاقة الإسلام والمسلمين بالدنيا، وبالناس جميعًا مسلمين وغير مسلمين ، وقامت عليه وحدة الإنسانية التى تتجاوز كل الفروق الأرضية التى جرى الناس على التوقف عندها. الاختلاف بين الناس سنة كونية من سنن الحياة ، تحدث عنها القرآن الكريم فقال: « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» ( هود 118 ). روح وعمود الإسلام هو التفاته المحمود إلى هذا الاختلاف وموافاته بما يقتضيه تحقيقًا للسلام والأمان للإنسانية ، وللناس كافة . أحلت الآية الخامسة من سورة المائدة للمسلمين طعام أهل الكتاب ، وطعام المسلمين حل لهم، وأحلت زواج المسلم بالكتابية وأن تبقى الزوجة على دينها دون أن ينقص ذلك شيئًا من حقوقها. اقتضى المفتاح الذى سلمه الإسلام للدنيا، أن يكون الإسلام واحة للأمن والأمان، والأمان مقرون فيه بالوفاء بالعهود والمواثيق.والوفاء بالوعد والعهد والميثاق ، مبدأ عام أوصانا به اللطيف الخبير عز وجل. فقال: «وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً» (الإسراء34 ) ، وأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات المؤمنين ، فقال عنهم: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ» ( البقرة 177). ونعرف من القرآن الحكيم أن حق العهد والوفاء مقدم فى الإسلام على كل ما سواه. حتى على الانتصار للدين . وفى ذلك يقول جل شأنه: «وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ» ( الأنفال 72 ) بذلك قدَّم القرآن الكريم بصريح وآمر لفظه قدَّم احترام ورعاية العهد والوعد والميثاق على نصرة من يستنصر المسلمين فى الدين . وفى حديث الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام : «إن حسن العهد من الإيمان». لا يقبل الإسلام بأى ذريعة نقض العهود والمواثيق .. فى حديث رسول القرآن عليه الصلاة والسلام: «من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلّن عهدًا ، ولا يشدنه، حتى يمضى أمده أو ينبذ إليهم على سواء». عاش الإسلام وتقدم بوفائه ووفاء رسوله ووفاء المسلمين بالعهد..منح للكافة أمان الحياة وأمان الجوار الذى لا يخرج منه أحد.. يُعطى ويُبذل للمسلم ولغير المسلم وللمشرك، وأعطى للجميع الثقة التامة فى كلمة المسلم ووعده وعهده، وفى منح ورعاية الخائف كل خائف حتى يبلغ مأمنه .. لا يستثنى من ذلك أحدًا، ولا حتى المشركين.. من يمر برحاب الإسلام يمر مصحوبًا بهذا الوفاء والأمان, آمنًا من الأذى ومن الغدر والخيانة. يقول لنا الحق جل وعلا: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ» ( التوبة 6 ) عاش الإسلام معطرًا بباقة ما تحلى به من سجايا وخصال وشمائل، موصولاً بالناس كل الناس، المسلم وغير المسلم، بسماحته التى صاحبت رسالته منذ نزلت وللآن ومن اللافت أن سماحة الإسلام لم تتوار حتى فى فترات الهبوط والانحدار أو استبداد وبطش بعض الملوك والحكام والأمراء والولاة .. وهذه حجة مضاعفة لسماحة الإسلام التى لم تستطع صور البطش التى سقطت فيها بعض فترات الحكم فى هذا القطر أو ذاك، أن تحول دون حضور سماحة الإسلام، وإلى هذا الحضور سر الحضارة الإسلامية التى مضت متسامقة رغم كل شيء، تتسع بقيم ومبادئ وسماحة الإسلام للناس جميعًا.. للمسلم وغير المسلم، وتفسح لكل قادر أيًّا كانت ملته أو ديانته ليعمل ويجتهد وليصب عطاءه فى نهر هذه الحضارة التى ظلت دافقة متدفقة لعدة قرون . أى إنسان يدخل إلى هذا العالم، مصحوبًا بهذا الأمان والوفاء، إنما يدخل إلى عالم جديد مختلف كل الاختلاف عما تركه وراءه فى عالم آخر مشوب من قديم بالمكر والخديعة والغدر والغش والخسة المتداولة فى دنيا الناس. لم يتقدم الإسلام لأنه قوض امبراطوريات، وإنما بما أقامه من بناء جديد .. وما يحمله فى صدور أبنائه وعقولهم ورءوسهم من قيم روحية وأخلاقية ومن رؤية جديدة تصلح وتبنى، لا تؤذى أو تضر ! تقدم الإسلام وأقام حضارة رفيعة، لأن عيون الدعوة كانت ملتفتة من واقع الدين ومبادئه وقيمه ومثله إلى عمار الحياة وإلى البناء وإقامة ما ينفع الناس . لم تكن رسالته تقويض امبراطورية الفرس أو الرومان، وإنما رسالة نور وهداية.. تتغيا تغيير الواقع الكئيب إلى «خفقات» جديدة تشد الحياة والأحياء إلى الأمام بقيم سامقة تختلف عما درج عليه الناس . شحنة الهداية والنور والإصلاح ، هى عمود وروح الإسلام! لمزيد من مقالات رجائى عطية