تتميز العلاقات الفرنسية المصرية بعمق ثقافى وتاريخي؛ أسهم ولا يزال فى تشكيل صورة مصر لدى الفرنسيين، وصورة فرنسا لدى المصريين، من خلال تسرب تجليات هذه العلاقات الثقافية والتاريخية فى الوعى والوجدان، يفوق عمر هذه العلاقات القرنين من الزمان من خلال البعثات، التى أوفدها محمد على باشا عند توليه حكم مصر والتى ضمت رفاعة رافع الطهطاوى أحد أهم رواد النهضة الحديثة فى مصر، وصاحب الكتاب المعروف «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» والذى ضمنه عادات وتقاليد ومعالم نمط الحياة الفرنسية الحديث، فى هذا الوقت المبكر، وذلك بهدف الاقتباس والتعليم والانفتاح على مظاهر الحداثة والعلوم والفنون، على قاعدة مقاصد الشريعة الإسلامية فى حفظ النفس والمال والدين والعقل والنسل، والتوفيق بين التراث والتجديد. منذ ذلك التاريخ البعيد، ترافقت العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا مع العلاقات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية وأصبحت الثقافة النواة الأساسية التى تمهد لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية، وتدفع بها قدما إلى الأمام باستثناء حقيبة الخمسينيات التى شهدت وقوع العدوان الثلاثى على مصر ونضال الجزائر ضد الاستعمار الفرنسى، وهى الفترة التى تمكنت فيها مصر بقيادة الزعيم الراحل عبد الناصر، وفرنسا بقيادة الزعيم الفرنسى شارل ديجول من تجاوز آثارها واستئناف العلاقات على قاعدة الاستقلال والندية. ثمة إدراك متبادل بين مصر وفرنسا، لموقع كلا البلدين وتأثيرهما فى المحيط والإقليم اللذين يتجاوزان حدودهما، فمصر تقع فى قلب الشرق الأوسط والعالم العربى وهى دولة آسيوية وإفريقية وإسلامية، ومارست تأثيرها الثقافى والسياسى فى هذه الدوائر، منذ أن تلمست طريق النهضة والحداثة واقتباس نظم التعليم والإدارة الحديثة وحاولت التوفيق بين التقليدية والحداثة، واكتسبت خبرات مهمة فى هذا السياق نقلتها إلى مختلف دول الإقليم، كما أن فرنسا تقع فى قلب أوروبا ولعبت دورا تاريخيا ومؤثراً فى مجرى التطور الأوروبى الحديث، من خلال الثورات وتأسيس الحداثة ورفع قيم الحرية والإخاء والمساواة، وBسهمت فى تشكيل الحضارة الحديثة وقيمها المعاصرة، وفضلاً عن ذلك تقع مصر وفرنسا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، الضفة الجنوبية والشمالية وبين هاتين الضفتين تبادل ثقافى وتجارى وعسكرى أسهم فى تقريب أنماط الحياة وتدعيم التواصل بين الثقافات والحضارات. فى هذا الإطار، استلهمت زيارة الرئيس الفرنسى لمصر مقدمات وأسس العلاقات بين البلدين، حيث بدأت زيارة الرئيس الفرنسى لمصر بزيارة معبد أبو سمبل فى الأقصر، فى الذكرى الخمسين لنقل هذا المعبد، وتكتسب هذه الزيارة الرمزية دلالات مهمة حيث تؤكد التقدير الفرنسى الرسمى والشعبى للحضارة المصرية القديمة، وتشير إلى عمق التاريخ الذى يربط بين مصر وفرنسا وأسهم فى فك رموز اللغة الهيروغليفية منذ أن اكتشف شامبليون أسرار لغة الفراعنة، كما أن هذه الزيارة الرمزية فى هذا التوقيت بالذات تكتسب دلالات معاصرة تتعلق بدعم السياحة فى مصر وتشجيع وفود السائحين الفرنسيين وغيرهم لزيارة مصر وآثارها، بعد التعثر الذى شهدته السياحة فى مصر عقب الثورة وتداعياتها، ورسالة هذه الزيارة إلى الفرنسيين والعالم تقول ادخلوا مصر آمنين وزوروا معابدها وآثارها دون خوف من الإرهاب حيث تمكنت مصر من تحقيق الاستقرار والأمن. من ناحية أخرى فإن الظروف الراهنة فى الشرق الأوسط وإفريقيا تقتضى مواجهة مشتركة من مصر وفرنسا فى العديد من ملفات وقضايا المنطقة؛ فرنسا بحاجة إلى دعم مصر فى سوريا والوصول إلى حل سياسى يحفظ وحدة الأراضى السورية ويحقق مصالح الأطراف المختلفة حول الصيغة الدستورية، فمصر تستضيف جزءا من المعارضة السورية وتؤيد بقاء النظام السورى ووحدة الأراضى السورية، من ناحية أخرى فإن فرنسا تخشى تداعيات الانسحاب الأمريكى من سوريا، ومصر من خلال الأفكار التى قدمتها حول الحل فى سوريا وعدم انحيازها إلى طوائف وميليشيات معينة فى الصراع السورى، اكتسب موقفها قوة أخلاقية ومعنوية يمكنها من التأثير فى مجريات الأمور نحو الحل السياسى. كما أن الأزمة الليبية تجمع بين مصر وفرنسا، فالبلدان لهما مصالح فى استقرار ليبيا والتوصل إلى صيغة سياسية مدعومة دوليا من المنظمة الدولية وجميع الأطراف الإقليمية والدولية، ويتفق البلدان حول أهمية الجيش الليبى والمشير خليفة حفتر فى حفظ وحدة ليبيا وتحقيق أمنها، خاصة بعد الاختلاف والتباعد بين إيطالياوفرنسا بشأن ليبيا وتأييد السترات الصفراء من قبل بعض المسئولين الإيطاليين. وأخيرا وليس آخرا فإن فرنسا ومصر مهتمتان بالقضية الفلسطينية وضرورة إخراج المفاوضات من الجمود الراهن، والتوصل إلى تسوية تحفظ للجانب الفلسطينى حقوقه المشروعة فى الدولة والقدس. أما الجدل والاختلاف حول حقوق الإنسان فإنه لا يقلل من أهمية هذه الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، فى مواجهة المصالح المشتركة والمتبادلة بينهما، ذلك أن مفهوم حقوق الإنسان من الممكن أن يجمع بين عمومية المبدأ وخصوصية التطبيق؛ أى لا يختلف أحد حول المبادئ والمعايير التى تعزز حقوق الإنسان ولا حول كونيتها وإنسانيتها، واعتبارها شريعة دولية عالمية، كما أن تطبيق هذه المبادئ رغم أنه لا يتجزأ- بالضرورة، إلا أنه يتعلق بخصوصية الظروف والملابسات التى تعانى منها كل دولة, ليس بهدف تبرير انتهاك لبعض هذه الحقوق، ولا بهدف إرجاء تطبيقها، وإنما تحين الوقت الملائم وفق أجندة الأولويات الوطنية، ولا شك أنه فى الحالة الفرنسية المصرية فإن التقارب يسبق التباعد، كما أن الاتفاق يسبق الاختلاف. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد