كان الأمر أشبه بمشهد سيريالى آخر من مشاهد البريكست. فبعد يوم طويل من التصويت فى البرلمان البريطانى على عدة تعديلات قانونية كلها مرتبطة بخطة رئيسة الوزراء تيريزا ماى للبريكست، خرجت ماى «منتصرة» شكلياً عندما صوت أكثر من نصف نواب البرلمان لصالح قرار يقضى ب»تمزيق» الاتفاق الذى توصلت إليه مع الاتحاد الأوروبى بعد نحو عامين من المفاوضات الصعبة، وإجبارها على العودة إلى بروكسل لإعادة التفاوض فيما لم يتبق غير 6 أسابيع على موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. حققت ماى هذا «الانتصار الشكلى « ليس بتوحيد البرلمان خلفها، بل بتوحيد حزب المحافظين الحاكم خلفها، عندما اضطرت للخضوع للمطالب الأكثر راديكالية للجناح المتشدد فى الحزب الذى أصر على فتح اتفاقية الخروج مع بروكسل وإعادة التفاوض على البرتوكول المتعلق بأيرلندا الشمالية. وصوت لإعادة فتح المفاوضات 317 نائباً مقابل رفض 301 نائب أى بأغلبية 16 نائبا فقط. وهى أغلبية ضئيلة لا تدعم موقف ماي، بل تظهر حجم الانقسام داخل البرلمان. ولا عجب أن يرد الاتحاد الأوروبى بلغة الأبيض والأسود، معلناً رفض إعادة التفاوض على اتفاقية الخروج التى تم التوصل إليها فى نوفمبر الماضى وصدق عليها البرلمان الأوروبى فى ديسمبر الماضي. ولاعادة فتح الاتفاقية للتفاوض لابد من موافقة المفوضية الأوروبية والبرلمان الاوروبى معا وهذا شبه مستحيل. كما أن الانقسامات داخل البرلمان البريطانى ستقنع قادة الاتحاد الأوروبى أكثر من أى وقت مضى ان «شبكة الأمان» يجب أن تظل فى اتفاقية الخروج وأن هذه هى اللحظة الحاسمة التى يجب أن تتزحزح فيها موقف الاتحاد الأوروبي. يوم الخاسرين لم يخرج أحد منتصراً من تصويت البرلمان ليلة الثلاثاء بخلاف الجناح المتشدد فى حزب المحافظين أو معسكر «البريكست الخشن» بزعامة النواب جاكوب ريس موج وبوريس جونسون وديفيد ديفيز وآخرين. فهؤلاء نجحوا فى إجبار ماى على الاعتراف ان خطتها لن تُمرر دون تعديلات جوهرية، ما يجعل ماى تعود عملياً للمربع رقم واحد فى مفاوضاتها الشاقة. وخرجت ماى خاسرة مصداقيتها. فقد ناقضت نفسها وخالفت مواقفها الأولية. فهى قالت عند التوصل لاتفاقية الخروج فى نوفمبر الماضى إن «هذه أفضل اتفاقية على الطاولة، وهى الاتفاقية الوحيدة على الطاولة». ودافعت عنها مراراً وتكراراً مؤكدة أن الاتحاد الاوروبى «لن يعيد التفاوض حولها»، و»ليس هناك اتفاق دون شبكة الأمان ودون شبكة الأمان ليس هناك اتفاقية».. أما أكبر الخاسرين فكان معسكر «البريكست الناعم» والجناح المناوئ للبريكست، وهم ائتلاف واسع من بعض نواب حزب المحافظين الحاكم وأحزاب المعارضة. فقد خسر هؤلاء تصويتين مهمين بفارق ضئيل. التصويت الأول كان يهدف إلى أخذ زمام المبادرة من الحكومة واعطائها للبرلمان فيما يتعلق بوضع خيارات وبدائل جديدة للبريكست من بينها تصويت شعبى ثان، وتأجيل البريكست، أو تغيير الخطوط الحمراء للحكومة. والتصويت الثانى الذى خسره انصار البريكست الناعم كان ينص على إلزام الحكومة «قانونياً» باستبعاد سيناريو الخروج من دون اتفاق. وقد نجحت ماى فى اقناع البرلمان برفض هذين التعديلين بأغلبية ضئيلة بتأكيد أنها ستحاول التفاوض مع الاتحاد الأوروبى خلال الأيام المقبلة، وأن التعديلات المطروحة تقيد يديها وتضعف موقفها وانه فى حال فشلت فى مهمتها لإعادة التفاوض بحلول منتصف فبراير المقبل، سيكون بإمكان البرلمان إعادة النظر فى الخطوات التى يريد اتخاذها والتصويت على ما يريده من بدائل. وما نجحت فيه ماى عملياً هو «وقف عقارب الساعة» لأسبوعين أمام البرلمان للبحث عن بدائل لخطتها. وهى ستذهب لأوروبا الأسبوع المقبل وليس لديها أى تصورات محددة عن البدائل المقبولة. والخطورة فى هذا السيناريو أنها ستعود بتعديلات، أغلب الظن أنها لن ترضى الجميع، لكن فى هذه الحالة سيكون فبراير على وشك الانتهاء وموعد مارس للخروج من الاتحاد الأوروبى يقترب. أيضا ضمن الخاسرين حزب العمال الذى يعانى انقساماً داخله حول البريكست تماماً مثل الحزب الحاكم. وأظهر تصويت ليلة الثلاثاء أن فشل زعيم الحزب جيرمى كوربين فى توحيد صفوف الحزب حول موقف من البريكست إدى إلى هزيمة مشروعات القرارات التى دعمها الحزب. ووسط الجلبة المتعلقة بتصويت البرلمان لصالح إعادة التفاوض على نص اتفاق البريكست، غاب أن غالبية البرلمان صوتت أيضاً لصالح رفض سيناريو الخروج دون اتفاق ما لم يتم التوصل لإتفاق بحلول نهاية مارس المقبل. وهذه هى المرة الأولى التى يصوت فيها البرلمان لصالح رفض سيناريو الخروج دون اتفاق. لكنه قرار معنوى بلا انياب لأنه ليس ملزم قانونياً للحكومة. طريق صعب وسيكون أمام بريطانيا أسبوعان شاقان. فالاتحاد الأوروبى أعلن رسمياً رفض إعادة التفاوض على الاتفاق الذى توصل اليه مع ماي. ولم يقدم الاتحاد غير ما سبق وقدمه فى مناسبات سابقة وهو تأكيد أنه مستعد لتعديلات فى الاعلان السياسي، غير الملزم قانونياً. وتقف فرنسا وإسبانيا وإيرلندا الجنوبية بحسم ضد فتح الاتفاقية لإعادة التفاوض. فالرئيس الفرنسى امانويل ماكرون قال إن الاتفاقية «أغلقت ولن يُعاد التفاوض حولها»، فيما قال رئيس ايرلندا الجنوبية ليو فاردكار إن بند «شبكة الأمان» جزء من اتفاقية الخروج ولا بديل له. لكن وحتى إذا وافق الاتحاد الأوروبى على مفاوضات جديدة حول «شبكة الأمان» فهناك عدة معضلات تحول دون ذلك منها: أولاً: ضيق الوقت، فأمام ماى أسبوعين فقط للعودة للبرلمان البريطانى بخطة ما. وعملياً من المستحيل التوصل لأى تعديل مقبول أوروبياً خلال الفترة المتبقية. ثانياً: ماى لم تغير خطوطها الحمراء وبالتالى البدائل محدودة. ثالثا: لا أحد يعلم كيف ستصوت برلمانات 27 دولة أوروبية على أى تعديلات مقترحة. الرهان على الوقت والغموض البناء وما تراهن عليه ماى أمام كل هذه الصعوبات هو الوقت والغموض البناء وهو نفس الأسلوب الذى استخدمته خلال العامين الماضيين. فالقرار الذى صوت عليه البرلمان لفتح اتفاقية الانسحاب لإعادة التفاوض ينص على إزالة شبكة الأمان وايجاد «ترتيبات بديلة» وهى لغة فضفاضة تفتقر لاى تحديد ملزم. فتيريزا ماى «تعيش سياسياً يوما بيوم». فمنذ توصلت للاتفاقية فى نوفمبر الماضى وهى تعلم حجم الرفض لها من الجناح المتشدد من حزبها. وقد استطاعت تجاوز أزمة استقالات عدد من أعضاء حكومتها فى نوفمبر الماضى بالاعلان ان الاتفاق كله سيوضع أمام البرلمان فى ديسمبر للتصويت عليه. ثم فى ديسمبر اضطرت لتأجيل التصويت عندما أدركت ان الهزيمة ستكون كبيرة. وفى يناير عندما رفض البرلمان خطتها بأغلبية ساحقة حاولت تجاوز الهزيمة بإعلانها انها ستعود بخطة (ب). وعندما عملت أن المتشددين فى حزبها سيرفضون أى خطة جديدة لا تعالج إزالة «شبكة الامان»، أعلنت أنها ستفتح المفاوضات من جديد مع الاتحاد الأوروبى على أن تعود بخطة معدلة فى 13 فبراير المقبل. وبطريقة ما، تجعل ماى خريطة الطريق اكثر ضبابية بأطروحات مستحيلة، وتغلق الطريق أمام أى خيارات أخري. فلم تتحرك بريطانيا خطوة للأمام أمس. بل عدة خطوات للخلف. فبدلاً من أن يدعم النواب اعطاء البرلمان دورا أكبر فى تحديد البدائل إذا فشلت خطة الحكومة للبريكست أو ان يستبعدوا بشكل قانونى ملزم سيناريو الخروج من على حافة الهاوية أو يصوتوا لصالح تمديد الفقرة 50، لم يحدث أى من هذا. والأسوأ ان تيريزا ماى ستأخذ الاتفاقية التى تفاوضت عليها لنحو عامين وتعود بها للاتحاد الأوروبى طالبة إزالة أهم بروتوكول فيها. أى تعود للمربع الأول فيما يتبقى أقل من شهرين على الخروج. ما يجعل هامش الوقت المتاح للبحث عن بدائل إذا فشل رهانها فى إعادة التفاوض ضعيفا جدا للحكومة وللبرلمان، ما يعنى أن انتصار الحكومة مؤقت وشكلى وخال من المضمون.