لاشك أن أكبر الأخطاء التى يقع فيها صناع القرار، هو سوء الإدراك، أى القراءة غير الدقيقة وغير المكتملة أو غير الشاملة للواقع القائم، الأمر الذى يدفع بدولهم إلى الكوارث. وكلما أتت القراءة مبكرة، كانت المخرجات قوية وسابقة على ما يقع. وفيما يتعلق بتحولات النظام الدولى الحادثة عقب الثورات العربية التى وقعت فى المنطقة، وعلى الأخص (تونس مصر)، فإنه من المفيد أن نشير إلى المناظرة الكبرى والمهمة فى أدب العلاقات الدولية حول قدرة أى من الأنساق الدولية (متعدد الأقطاب أو ثنائى القطبية أو أحادي)، على تحقيق أكبر قدر من الاستقرار الدولى والإقليمي، الأمر الذى ينعكس على اختيارات الدول الصغرى أو المتوسطة. فيرى عالم السياسة الأمريكى (كينيث والتز)، أن نسق القطبية الثنائية هو الأكثر قدرة على تحقيق الاستقرار الدولى للأسباب التالية: يتميز نسق القطبية الثنائية بهيمنة قوتين مسيطرتين على النسق الدولى وأحداثه العالمية، مما يؤدى إلى زيادة قدرتهما على تحقيق الاستقرار الدولي. يتميز هذا النسق بالتنافس الحاد الواسع النطاق بين القوتين المسيطرتين، ومن ثم فإن كل قوة تهتم بأى تغير فى الميزان، حتى لو كان محدودًا. يتميز هذا النسق أيضًا بتفاهم القوتين المسيطرتين على إطار معين للتعامل مع الأزمات الدولية. وفى هذا السياق فإن القوتين المسيطرتين قد لا تتدخلان لمنع حدوث مثل هذه التغيرات المحدودة نتيجة لإدراكهما أن تلك التغيرات لن تؤثر فى مركزيهما المهيمنين على النسق الدولي، وبدلاً من ذلك أيضًا فقد تريان أن عدم التدخل ربما يكون هو السياسة المثلي، خاصة فى أن التدخل قد يؤدى إلى زيادة احتمال نشوب حرب نووية. على الجانب الآخر: فيرى (ريتشارد روسكرانس) أن نسق تعدد الأقطاب أكثر قدرة على تحقيق الاستقرار الدولي، وذلك لعدة أسباب هي: أن نسق تعدد الأقطاب يوفر فرصًا أكبر للتفاعل بين الدول، ومن ثم لتحقيق الأهداف الوطنية عن طريق تعامل الدولة الواحدة مع عدد من الدول المختلفة إذا تطلب الأمر ذلك. يتميز نسق تعدد الأقطاب بتعدد المحالفات بين الدول طبقًا لكل قضية على حدة، فالدولة قد تتحالف مع دولة أخرى تحالفًا عسكريًا، ولكنها ربما تتحالف مع دولة ثالثة تحالفًا اقتصاديًا، ويؤدى تقاطع هذه التحالفات وتشابكها إلى ربط مصائر الدول بعضها ببعض، ومن ثم إلى تحقيق الاستقرار الدولي. يؤدى هذا النسق، بما يعنيه من تعدد الدول الكائنة فى النسق، إلى الحد من حجم الاهتمام الذى توجهه الدولة إلى الدولة الأخرى الداخلة فى صراع معها، ومن ثم يتضاءل احتمال تصاعد الصراع إلى حالة الحرب. يؤدى هذا النسق إلى تحجيم سباق التسلح، لأن اتجاه دولة واحدة إلى زيادة تسلحها قد لا يفسر بأنه موجه بالضرورة إلى القطب المضاد كما هو الحال فى نسق القطبية الثنائية، ولكنه قد يفسر على أنه موجه إلى أى من الدول الأخرى الكائنة فى النسق. يتميز هذا النسق التعددى بوجود الدول الوسيطة التى قد تساعد على تسوية المنازعات بين الدول. ويرى (ميخائيل هاس) أن النسق ذا القطبية الواحدة أى أحادى القطبية، هو أكثر الأنساق الدولية ميلاً إلى الاستقرار. فالقطب المسيطر على النسق يضمن بحكم قوته الهائلة، عدم تحدى صانعى القرار فى الدول الأخرى لإرادته، وهذا يؤدى إلى استقرار النسق. أما نسق القطبية الثنائية فإنه ينتج عددًا ضئيلاً من الحروب، ولكنها قد تكون فى معظم الأحوال حروبًا إقليمية طويلة الأمد بين القوى التابعة للقطبين. كما أن نسق تعدد الأقطاب يتسم بمزيد من الحروب. ويؤكد أن تركز القوة فى يد دولة واحدة أو مجموعة من الدول المؤيدة لاستمرار الوضع الدولى القائم، يؤدى إلى الإقلال من احتمال لجوء الدول الأخرى إلى استعمال القوة العسكرية، وشواهده تركز القوة فى بريطانيا خلال القرنين (18، 19)، الذى أدى إلى هيمنتها على البحار، كان من أهم العوامل التى خلقت جو السلام الدولى معظم القرنين. ترى ماذا حدث فى النظام الدولى الحالى من تغيرات وتحولات، تساعد على القراءة الدقيقة التى تعين صناع القرار على الاختيارات الأفضل تحقيقًا للمصلحة الوطنية. لمزيد من مقالات ◀ د. جمال زهران