جلس صديقي المتزمت إلي جواري علي شاطيء البحر, ورأيت الامتعاض باديا علي ملامحه, ولاحظت أنه يهز رأسه أسفا, وعندما سألته عن السبب أشار إلي مجموعة من السائحين كانوا علي مقربة منا يؤدون تمارين رياضية علي أنغام موسيقي غربية سريعة الإيقاع وهو يقول: هؤلاء مصيرهم جهنم. كانت أجواء البحر والهواء المنعش تشجع علي مناقشة مفيدة بيني وبين صديقي الذي أعرف عنه طيبة القلب والكرم فقلت له: ما أعلمه أن ديننا لا يتوعد بالنار إلا الكفار, وأن الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به. وباستثناء العشرة المبشرين بالجنة فإنه لا يوجد إنسان علي ظهر الأرض يعلم علم اليقين عمن يذهب إلي الجنة ومن يحشر في النار. وأنت تعلم مثلي أن مجموعة السائحين الذين أمامنا الآن من الإيطاليين وأنهم من المسيحيين الكاثوليك أي أنهم من أهل الكتاب فعلي أي أساس أفتيت بأن مآلهم جهنم وبئس المصير؟ نظر إلي نظرة حادة وهو يقول: ألا تري أن نساءهم يرتدين البيكيني ويتراقصن بخلاعة في المياه علي أنغام الموسيقي ويعلم الله ما يفعلونه مع هؤلاء الرجال وهم بالتأكيد ليسوا أزواجهن. هل يمكن أن تأوي الجنة هؤلاء الفاسقين؟ قلت: أما عن الرقص والموسيقي فهي ليست محرمة لا في دينهم ولا في الإسلام, وما أراه أمامي مجموعة من الشباب محبون للحياة وراغبون في الاستفادة من وقتهم والاستمتاع بمباهج الحياة. وأما عن إيحائك بأن الله يعلم ما يفعلونه مع رجالهم وأنهم ليسوا أزواجهم فهو من وحي خيالك وهو خيال إنسان ينتمي إلي ثقافة وصلت في العقود الأخيرة إلي درجة كبيرة من الغلو والتطرف في النظرة إلي جسد المرأة تصل إلي حد الهوس وسيطرت علي عقول رجالنا هواجس أشبه بما يطلق عليه في علم النفس الوسواس القهري. اعتدل صديقي ونظر في اتجاه الأفق البعيد وهو يقول بلهجة قاطعة: علي أية حال فإن الإسلام هو دين الحق الوحيد وقد تم تبليغ رسالته إلي جميع البشر ومن لا يؤمن به سوف يذهب إلي النار ولا حجة لأحد بأن الرسالة لم تبلغه. قلت: من أين أتيت بهذا المبدأ؟ هل تعتقد فعلا أن كل من ليس مسلما لن يذوق طعم الجنة مهما كانت أفعاله وحسناته؟ هل تعلم أن المسلمين لا يشكلون سوي خمس الإنسانية علي أكثر تقدير أي أنه لو كانت نظريتك صحيحة فإن أربعة أخماس البشر سوف يحشرون في النار بغير حساب. هل تتخيل أن الله الذي يصفه القرآن بأنه الرحمن الرحيم الغفور قد خلق أكثر من 80% من بني الإنسان وهو ينوي مسبقا أن يلقي بهم في أتون جهنم ويصلون في النار لمجرد أنهم ولدوا علي غير ديننا؟ لم يجب صديقي فاستأنفت قائلا: هل تؤمن حقا أن هؤلاء وهم الذين اخترعوا كل ما ننعم به من وسائل الراحة والتقنيات الحديثة سوف يذهبون إلي النار ونحن الذين نعيش عالة عليهم في كل شيء سنذهب إلي الجنة؟ وجه إلي صديقي نظرة تعجب أقرب إلي الاستهجان وهو يقول: ماذا الذي تقصده بهذا الكلام؟ سألته: هل تستطيع أن تعيش بغير الكهرباء؟ فإنه إذا انقطعت ساعة واحدة كما يحدث كثيرا في مصر الآن يضج الناس ويشكون ولا يطيقون حياتهم, هل تستطيع أن تعيش بغير سيارة أو مواصلات عامة من أتوبيس أو مترو إن كنت لا تملك سيارة خاصة؟ هل تستطيع أن تمضي يوما واحدا من حياتك دون مشاهدة التلفزيون ومتابعة أحوال العالم؟ هل بوسعك أن تعيش بغير تليفون موبايل دون أن تشعر أنك انقطعت عن الحياة؟ وهل تستطيع أن تعيش دون علاج طبي متطور وأشعة وتحاليل وأدوية شافية؟ أجاب صديقي وكأنه لم يفهم: وما علاقة هذا بما أقوله؟ قلت: علاقته وثيقة جدا. فإن كل من اخترع هذه الاختراعات من هؤلاء الغربيين الذين قررت أن تزج بهم في أتون جهنم. فالذي سخر الكهرباء في خدمة الإنسان هو الأمريكي إديسون والذي اخترع التليفون هو البريطاني جراهام بيل والرجل الذي كان وراء اختراع السيارة هو الألماني كارل بنز والذي اخترع التلفزيون رجلان من أمريكا والذي اكتشف أشعة إكس هو الألماني رونجين. فماذا اخترع العرب والمسلمون منذ مئات السنين؟ نحن عاجزون عن إنتاج سيارة أو طائرة أو حتي إبرة بالمواصفات العالمية المطلوبة, وبرغم شعوري بأن صديقي المتزمت ليس مرتاحا لكلامي أضفت قائلا: ياعزيزي علينا أن نعترف أننا أصبحنا نعيش بفضل ما تنتجه عقول هؤلاء الذين تزدريهم وتحقر من شأنهم وانت جالس في مكانك؟ المسلم الوحيد الذي كان له إسهام علمي دولي هو أحمد زويل وقد سألته يوما: هل كان من الممكن أن تنجز ما أنجزت وانت في مصر؟ ابتسم قائلا: بالطبع لا. انبري صديقي المتزمت قائلا وكأنه وجد التايهة: هل تعتقد أن ظهور البترول في بلاد العرب والمسلمين كان بمحض الصدفة؟ وبدوري لم أفهم ما يرمي إليه من سؤاله فاستطرد شارحا: لقد قسم الله مهام الدنيا بيننا وبينهم. هم يشقون ويعرقون ويتعبون ونحن المسلمين وهبنا الله المال الذي نشتري به جهودهم ومخترعاتهم. أثارني كلامه إلي أقصي درجة.. فمنطقه يتناقض تماما مع كل قيم الإسلام فقلت بنبرة تعكس حالة الغضب التي أشعر بها: إن كان كلامك مزاحا فهو مزاح بطعم العلقم, أما إن كنت جادا فهذه نظرة تتنافي مع كل مباديء الإسلام الذي يحث علي الجد والعمل وعلي إلغاء الرق والاستعباد, لم يحدث أن سخر المسلمون في أوج دولتهم أحدا من أهل الذمة أو غيرهم ليعملوا مكانهم في الوقت الذي يستريحون فيه من عناء العمل, لاذ صديقي بالصمت وتوقف الحوار, ولم أحزن لأن صديقي مصاب بداء التزمت.. لكن ما يحزنني هو أن الكثيرين في زماننا صاروا يفكرون مثله. المزيد من مقالات شريف الشوباشي