مسألة تجسيد الأنبياء، وكبار الصحابة والحواريين، مسألة مثارة من قديم، عالميًّا واقليميًّا ومحليًّا.. تجاوزتها الولاياتالمتحدةالأمريكية فى أفلام مثل فيلم الإغواء الأخير للمسيح The last temptation of Christ، وفيلم تعذيب أو آلام المسيح Passion of Christ، فجسدوا هناك شخصية السيد المسيح عليه السلام، والسيدة مريم العذراء، والحواريين، ساعدهم وشجعهم على ذلك، الإمكانات الهائلة لصناعة السينما فى الولاياتالمتحدة ، ما بين النص والسيناريو والتمثيل والإخراج ولغة الحوار والملابس والديكور إلى غير ذلك مما أتاح لهم إظهار هذه الشخصيات بشكل لائق وصورة تقترب من جلال الصورة المحفوظة لهم فى أذهان الناس. على أننا لا نملك ما تملكه الولاياتالمتحدة فى هذه الصناعة، وليس يكفى أنه كان لدينا فى السالف ممثلون كبار موهوبون، فهناك تواضع النص والإخراج وابتعاد لغة الحوار عن الواقع، ناهيك بعادات وملابس العصر، فخرجت هذه الأفلام فى صورة متواضعة، وأخلت بالصورة المجسدة فى وجدانات ومخيلات الناس، وحسبك أن تراجع فيلم خالد بن الوليد الذى راق للصديق الدكتور جابر عصفور أيام الطفولة أو مطلع الصبا، فلم تكن مقومات الفنان حسين صدقى هى المقومات الصالحة لتمثيل شخصية هذا القائد البطل الفذ، ولا كان إخراج المعارك والأحداث لائقًا، ويصدق ذلك على الفيلم القديم الآخر الذى راق له وأبكاه فى أيام الطفولة كما ذكر أخيرًا فى حديثه لإحدى الفضائيات، فإقناع الطفل غير إقناع الكبير الناضج، وقد استشهدت له فى حديث تليفونى طويل بأفلام طرزان التى جسدها السباح العالمى جونى ويسمولر وكنا نعشقها ونهيم بها صغارًا، ونهتز وتحتبس أنفاسنا لكل مشهد من مشاهدها، وهو يصارع الأسد فيغلبه ، أو يصارع التمساح فى المياه فيقضى عليه ويغرقه، وتتهدج أنفاسنا ونحن نتابع هذه المشاهد ومضت الأعوام وشببنا عن الطوق، وتصادف أن سافرت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لإجراء جراحة دقيقة فى يوليو 1990، فطفقت أمر على كل متاجر الأفلام السينمائية والتليفزيونية لأشترى أفلام طرزان التى جسدها جونى ويسمولر، فراعنى نظرات الاندهاش التى لاقانى بها كل من سألته، حتى أعيانى البحث ، ولم أعثر إلاّ على فيلم قديم أنتج عام 1929 بعنوان: الرجل القرد « The ape man ، فاشتريته فرحًا، ثم أعانتنى زوجة أمريكية لأحد أصدقائى هناك ، وكانت من عشاق السينما ، ولديها كتالوجات لكل ما أنتجته السينما الأمريكية من أفلام بعناوينها وممثليها ومخرجيها والشركات التى أنتجتها، واستطعت بمعونتها أن أتجه إلى ما بقى من الشركات المنتجة ، وحصلت على ستة أفلام أخرى زادت إلى ثمانية من خلال متابعتى بالتسجيل ما عرض مصادفةً فى بعض القنوات التى تحتفظ بقلّة نادرة من أفلام طرزان. وسارعت فرحًا حين وطئت قدماى أرض الوطن، بعرض هذه الأفلام بالفيديو على أحفادى فلاحظت عليهم ما كان يلحق بى قديمًا من الانبهار، ولكنى فوجئت بأننى لم أعد الشخص الذى انطلت عليه سلفًا الحيل السينمائية الساذجة، وإذا بنظرتى تتبدل، وإذا بالولع القديم يزول، ويحل محله الإحساس بسذاجة ما كان يبهرنى فى الصغر. ذكرت ذلك كله وغيره للصديق الدكتور جابر عصفور فى حديثنا التليفونى المتشعب الطويل، وناقشته فى اعتراضه على معارضة الأزهر تجسيد الأنبياء والنبى محمد عليه الصلاة والسلام وكبار الصحابة، وأبديت له أنه لو شاهد اليوم ما أعجبه وراق له وأبكاه سالفًا فى الصغر، لتبدل رأيه، ولظهر له سذاجة ما عرض فى الفيلمين، وسذاجة وتواضع تجسيد المرحوم حسين صدقى لشخصية سيف الله المسلول، القائد البطل القوى المفتول العضلات، فلا هو كان مقنعًا فى تجسيد شخصية البطل المغوار، ولا كان الفيلم مقنعًا ولا لائقًا فى عرضه للعصر وللمعارك والأحداث. افتقادنا للمقومات التى تتوافر للسينما الامريكية، تؤيد رؤية الأزهر الشريف فى الاعتراض على تجسيد الأنبياء والنبى محمد عليه الصلاة والسلام وكبار الصحابة ، بل إن هذا التجسيد مع افتقاد الإمكانات والمقومات يهز الصورة الماثلة لهم فى وجدانات الناس، ويأخذ منها ولا يضيف إليها، ومن ثم فإن الاحتجاج بالسينما الأمريكية قياس مع الفارق الشديد جدًا فى كل الإمكانات، اما ما فعلته إيران من تجسيد النبى عليه الصلاة والسلام ، فأحسب أنه خطًا كبير سيتجلى فيما أوقن لكل من سيشاهد هذا العمل لدولة لم تبلغ حتى ما بلغناه نحن فى صناعة السينما. إن تجسيد النبى وكبار الصحابة لا تكفى فيه الرغبات والأشواق، فقد تأتى الأعمال الفنية صادمة تحدث عكس المأمول فيها، وتهز ما فى وجدان ومخيلات الناس لهذه الشخصيات الفذة العظيمة. علينا ابتداءً أن نتدبر رصيدنا المعرفى والثقافى والفنى، وأن نراجع إمكاناتنا، وأن نقدر ثقافة وأحلام الناس ، ونتبصر بالنتائج قبل مطاوعة الرغبات والأشواق. ظنى أيضًا أنه يجب علينا أن نتمتع بالمرونة التى نلح فى مطالبة الأزهر الشريف وعلماء الدين بها وننساها فى أنفسنا ، وأن نتجنب التجمد على رأينا دون غضاضة ما دام قد استبان لنا أنه لا يصادف محله ، فالمثقفون هم طليعة الرأى ، والرأى نظر ومراجعة ، فلا جدوى من النظر إذا لم يقترن به التأمل والاستعداد للمراجعة والتعديل والتغيير ، ويفقد المثقفون إن لم يتسلحوا بذلك يفقدون حجتهم فى النعى على علماء الدين بالتحجر والجمود . نحن محتاجون للتجديد فى الخطاب الثقافى مثلما نحن محتاجون للتجديد فى الفكر والخطاب الدينى ظنى أن احتياجنا لتجديد الخطاب الثقافى والتعليمى يسبق بداهة تجديد الفكر والخطاب الدينى ، فتجديد الفكر ينبع أساسًا من تحرر العقول وثراء الثقافة وتنوعها وارتقاء التعليم . فهل نحن فاعلون؟!. لمزيد من مقالات رجائى عطية