خُذْ أم كلثوم نموذجاً يُعبِّر عن مكانة الفن والفنانين في حياة المصريين بما لا يقل، بل قد يزيد، عما يحدث في الأمم المتحضرة التي نالت شهرة تقديس فنانيهم. فقد وضع المصريون أم كلثوم في مكانة خاصة، لا لشيئ إلا لإخلاصها لفنها وتجويدها في عملها حتي وصلت إلي مستويات عليا في الأداء استحال علي معاصريها منافستها فيها أو حتي مجاراتها أو الاقتراب منها. هذه المكانة التي تراضت الجماهير العريضة علي أن أم كلثوم تستحقها عن جدارة، وبرغم أنها مكانة اعتبارية، تحولت مع الأيام إلي سلطة حقيقية تصمد أمام السلطات المتعارف عليها، بل قد تتفوق عليهم جميعاً إذا ظن بعضهم أنه يمكنه أن ينال منها. وفي إحدي هذه المرات، توهم بعض أعضاء مجلس قيادة ثورة 1952، وقد أخذتهم نشوة القوة بعد تمكنهم من الإطاحة بالملك، أن أم كلثوم، التي اعتبروها رمزاً للعصر البائد، أسهل في التخلص منها، فكان القرار الغريب العجيب بمنع أغانيها من الإذاعة، ولم يدركوا أنهم أطلقوا آلية يصعب عليهم فهمها! أما عبد الناصر، الذي فوجئ بقرارهم، وإضافة إلي اتفاقه مع الحب الشعبي الغامر لها، فقد انتبه إلي حجم الحماقة وإلي ما سوف ينال صورتهم جميعاً لدي الجماهير العريضة من هذا القرار، فألغي تنفيذه فوراً وأرسل إليها من يسترضيها. هذه المكانة الخاصة جعلت الشعب المصري التقليدي المحافظ يستثني أم كلثوم من أحكامه العامة التي كان يبدو أنها راسخة لا تتغير، مثل المقاييس العامة للجمال التي لا تنطبق عليها، ومثل إصرارها علي أن تقدم نفسها كآنسة، حتي مع تقدم العمر، فلا يستهجن أحد، بل يتداولون باحترام وإعجاب حكايات عن عشاقها الكثيرين الذين يتنافسون علي الاقتراب منها، وهو ما لا يجيزونه لغيرها. بل قبلت الجماهير البسيطة منها أن تغني بالفصحي قصائد غامضة عليهم. هذه الشهرة الخرافية، المقترنه بالتقدير والإجلال، وصلت إليها أم كلثوم بالتراكم وعلي مهل وصبر قبل اختراعات التواصل التي تضع الأجيال الجديدة في مرأي ومسمع عشرات الملايين في لحظة واحدة! لمزيد من مقالات أحمد عبدالتواب