قبل مائة عام، انفجرت فى مصر ثورة 1919 الوطنية التحررية، التى جسدت كفاح المصريين من أجل الاستقلال الوطنى، الذى تمتعوا به نحو 70 % من تاريخهم الألفى العريق. فقد تطلع المصريون الى انهاء الاحتلال البريطانى لمصر، واسترداد حقهم فى حكم وطنهم، أى انتزاع حق الأمة المصرية فى تقرير المصير. وتبينوا فى مجرى الثورة وفى أعقابها أن إعلان الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون تأييده حق الأمم فى تقرير مصيرها عشية نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يكن سوى إعلان منافق ردده زعماء بريطانياوفرنسا أهم الإمبراطوريات الاستعمارية. وفى كشف مقدمات الثورة أوجز هنا ما يتصل بها فى الكتاب الوثائقى المهم (50 عاما على ثورة 1919, مركز الوثائق والبحوث التاريخية لمصر المعاصرة بمؤسسة الأهرام، 1969) . ويسجل أولا، أن وعود بريطانيا بالجلاء عن مصر وتصريحاتها باحترام استقلال مصر، قد توالت نيفاً وستين وعداً وتصريحاً من أشهرها تصريح جلادستون رئيس الوزارة البريطانية فى مجلس العموم يوم 24 يوليو سنة 1882 بأنه: ليس لبريطانيا العظمى مطامع فى مصر، وهى لم ترسل الجنود لها إلا لإعادة الأمن فيها، ولكى ترجع للخديو سلطته التى فقدها !! ثم تصريح جلادستون فى مجلس العموم أيضا يوم 12 أغسطس سنة 1882 بأنه: ليس فى نيتنا مطلقاً أن نحتل مصر، وإذا كان هناك شىء لا نقدم عليه فهو ذلك الاحتلال، لأن فيه مناقضة تامة للمبادئ التى أعلنتها حكومة جلالة الملكة، وللوعود التى وعدتها لأوروبا ولساسة أوروبا نفسها !! وثانيا، أن نفى احتلال مصر كان لغوا لا يستقيم وقد صار واقعا، حيث استمرت القوات البريطانية حتى بعد وأدها للثورة العرابية وتمكينها للخديو توفيق الذى استدعاها لهذا الغرض. فجاء تصريح مستر جلادستون فى مجلس العموم يوم 14 نوفمبر 1882 يعلن أن الاحتلال ليس إلا مسألة وقت، ثم تشمبرلين فى 19 ديسمبر سنة 1882 يقول: إننى لا أضيع وقتى فى تكذيب ما ينسبونه للحكومة من أنها تنوى بسط حمايتها الدائمة على مصر؛ ولا ريب فى أننا سنجلو عن مصر إذا استتب النظام فيها، وأننا لا نرغب سوى أن نضمن لمصر الأمن والسعادة والاستقلال!! وتلى هذا تصريح مستر جلادستون رئيس الوزارة فى مجلس العموم يوم 23 يونيه 1884 يزعم: أننا نتعهد ألا نطيل احتلالنا العسكرى لمصر إلى ما بعد أول يناير سنة 1888؛ إذا كانت حالة البلاد تسمح برحيلنا دون تعكير الأمن فى مصر!! وثالثا، أن انجلترا، رغم كل اللغو السابق واللاحق، كان أول عمل قامت به هو إلغاء دستور مصر ومجلس نوابها، كما قامت باستصدار أمر من الخديو توفيق بحل الجيش المصرى وتسريح أفراده . فى 30 مايو سنة 1883 عينت سير أيفلن مارنج، أو لورد كرومر فيما بعد، قنصلاً عاماً لها فى مصر ومنحته من السلطة والنفوذ ما جعله يسيطر على كل صغيرة وكبيرة فى البلاد ثلاثة وعشرين عاماً وتضاءلت بجانبه كل سلطة وطنية، وأصبح يعرف بين الناس بأنه خديو مصر غير المتوج. ورغم هذا فان انجلترا بقيت مستترة بخطابها المنافق الذى ينكر واقع احتلالها لمصر؛ تجنبا للصدام مع فرنسا ودول أوروبية كانت تعارض انفراد بريطانيا بمصير مصر، وهو ما عبر عنه تصريح لورد سولزبرى رئيس الوزارة البريطانية فى مجلس اللوردات يوم 12 أغسطس 1889، يقول: إننا لا نستطيع إعلان حمايتنا على مصر، ولا إعلان نيتنا بأننا نريد أن نحتلها احتلالاً فعلياً أبدياً، لأن هذا يعد نقضاً لتعهدات انجلترا الدولية. وهكذا، بعد إبرام الاتفاق الإنجليزى الفرنسى سنة 1904، لم يهتم المسئولون الإنجليز بتجديد أى وعد بالجلاء عن مصر!! فبموجب هذا (الاتفاق الودى)، أعلنت حكومة الجمهورية الفرنسية أنها لن تطالب بتحديد موعد إنهاء الاحتلال الإنجليزى لمصر وتعهدت انجلترا بأن تطلق يد فرنسا فى مراكش. ورابعا، أن حادثة دنشواى 1906 تعتبر نهاية عهد كان الاحتلال يتمتع فيه بالاستقرار والطمأنينة، وبداية مرحلة جديدة من مراحل الجهاد القومى، حيث اشتد ساعد الحركة الوطنية بانضمام جمهرة المصريين إليها؛ بعد أن ساد الشعور بأن سواد الأمة قد خضع للاحتلال. وبعد الغضبة الوطنية والفضيحة العالمية التى ترتبت على حادثة دنشواى اضطرت الحكومة الإنجليزية إلى تعديل سياستها ولو ظاهرياً. وكان قوام التغيير عزل اللورد كرومر أو قبول استقالته فى أبريل سنة 1907 وإفساح مناصب الوزارة أمام بعض العناصر الوطنية من المصريين ومن ذلك تعيين سعد زغلول وزيراً للمعارف. وفى أواخر 1909 وأوائل سنة 1910، شغلت الرأى العام مسألة مشروع انجلترا مد امتياز قناة السويس. ومن المفارقات أن سعد زغلول الزعيم الوطنى الكبير لثورة 1919، ووزير الحقانية آنذاك، كان المدافع عن تأييد الحكومة المصرية للمشروع. لكن الجمعية التشريعية رفضت المشروع، الذى كان فشله انتصارا مهما للحركة الوطنية. وخامسا، أن انجلترا ما أن دخلت الحرب ضد ألمانيا حتى انعقد مجلس النظار برياسة حسين رشدى باشا- القائم بأعمال الخديو- وأصدر فى 5 أغسطس 1914 أى بعد 24 ساعة من إعلان الحرب قراراً نص على أن القوات البحرية والحربية التابعة لصاحب الجلالة البريطانية يجوز لها أن تباشر جميع حقوق الحرب فى الموانى المصرية أو فى أرض القطر المصرى!! وفى 7 نوفمبر أصدر قائد الجيوش البريطانية فى مصر منشورا يقول فيه: إننى قد كلفت بأن أعلن أن بريطانيا وتركيا فى حالة حرب.. ولعلم بريطانيا بما للسلطان بصفته الدينية من الاحترام والاعتبار عند مسلمى مصر فقد أخذت بريطانيا على عاتقها جميع أعباء هذه الحرب دون أن تطلب من الشعب المصرى أى مساعدة!! ولكن على النقيض يسجل السير وليم برونيت، المستشار المالى بالنيابة والمستشار القانونى لدار الحماية، أن مصر جعلت تحت تصرف القائد العام جميع مواردها من مال ومؤونة ووسائل نقل ورجال.. فأرسلت إلى فلسطين جيشاً يبلغ عدده 117000 مصرى (فرقة العمال وفرقة الجمالة) ولقد أوجب استبقاء هذا الجيش بهذا العدد على الدوام استخدام نحو مليون ونصف مليون من رجال مصر!! وكان ما جرى لمصر والمصريين خلال الحرب العالمية الأولى السبب المباشر لثورة 1919. لمزيد من مقالات طه عبدالعليم