في صباح السابع عشر من يناير، منذ ست وثمانين عاما، كان حي شبرا يستعد لاستقبال حدث سعيد، إذ لاحظ السيد بييترو جيجليوتي الإيطالي عازف الكمان المهاجر إلي أرض مصر ومعه جيرانه المصريون معاناة زوجته السيدة جوزفين، فقد بدأت تهاجمها آلام المخاض. انتقل بها زوجها ومعه جيرانه سريعا إلي المستشفي الإيطالي بالعباسية لتضع طفلتها ويرجعون بها إلي بيتهم في شبرا حيث الدفء ويستقبلهم باقي أفراد الجيران حيث النور. كانت الطفلة منذ مجيئها تطرب لعزف أبيها، عاشت طفولتها بين السعادة والمعاناة ودوران الزمن عليها وعلي عائلتها منذ موت الأب وتحمل أمها الكثير من المصاعب لتحافظ علي الأسرة. إنها يولاندا كريستينا جيجليوتي، أو كما تعرف في العالم باسم داليدا؛ بنت شبرا التي كانت علي موعد مع المجد والشهرة والعالمية في عالم الغناء، مجددة دائما في لونها الموسيقي وتغنت بأكثر من خمس لغات مختلفة. ظلت داليدا في صراع دائم بين الحب والموت، وكانت تسعي دائما لإيقاظ شعورها بالحياة، كانت شخصية عنيدة، ترفض الاستسلام لصروف القدر ونكباته بل أصرت دائما في كل مراحل حياتها علي أن تكون سيدة قرارها، فحتي حين كان يلطمها الزمن بإحدي موجاته العالية كانت تأبي أن تنكسر، بل كانت تتلقي الضربة فتنحني ولكن سريعا ما تنهض كي تعود للوقوف قوية الظهر مفرودة العود ولديها خطط عديدة لإيقاظ شعورها بالحياة. أولها كان انغماسها في عملها والبحث الدائم عن الجديد كي تقدمه بصوتها الذي اجتمع فيه عدة أحاسيس، ففي نبراته كان هناك الفرح ونقيضه الحزن، وفي تعبيراته كان هناك الأمل واليأس، البهجة والغضب، كانت بطلتنا قادرة علي تحريك هذه الانفعالات لدي جمهورها بصوتها الفريد. وثانيها في الارتباط بعائلتها أكثر فأكثر، وثالثها عبر تمسكها بعلاقتها بربها فكانت دائمة الاحتفاظ بأيقونة للعذراء وبصليب لا يفارقها أبدا، وأخيرا في القراءة، القراءة في جميع المجالات، فطالعت كتب التاريخ والفلسفة وغاصت بين صفحات الأديان بحثا عن درر الاطمئنان والراحة. عاشت حياة ثرية بالكثير من نقاط التحول والعديد من الإخفاقات والنجاحات التي مثلت لها مجرد مهدئ لعواصف قوية داخل روحها، فكانت نفسا لا تهدأ، وكانت دائمة البحث عن هذا الهدوء الذي أجهدها العثور عليه فأعلنت في النهاية استسلامها، وغادرت حياة أضناها ما واجهته فيها من مآسٍ متكررة لم تعثر فيها علي سلام النفس وراحة البال طوال 54 ربيعا راجية الصفح من جمهورها بأنها لم تعد تستطيع العيش وسط مصاعب الدنيا، ودفنت في مقابر المشاهير في باريس 1987.