ما الأمر الذى تحتاج إليه البشرية حاجة ملحة متصلة؟ وبدونه لا يتقدم نظام سياسى أو اقتصادى أو اجتماعي؟ أمر سر نجاح هذا كله، إنه السلام الدائم المستقر، فالسلام هو الذى يعطى للإنسان ابتسامته الداخلية لا الخارجية المظهرية ، كما يجعله يتذوق طعم الحياة وجمالها وروعة الطبيعة من حوله، وهو اسم من أسماء الخالق القدوس ونقطة انطلاق دعوة الإيمان والرجاء والمحبة. لذلك قرر علماء جامعة اللتران بروما، إحدى الجامعات الباباوية المنتشرة فى انحاء العالم، إقامة حلقات دراسية ستتحول فيما بعد إلى كلية فى الجامعة، ورسالتها : ثقافة السلام وأطلقوا على ذلك علوم السلام ولئن كان اليونان فى عصر ثقافتهم الذهبى اطلقوا على التاريخ اسم «علم التاريخ» ثم جاء فى عصرنا علم النفس وعلم الاجتماع إلى آخر ما أبدعه العقل البشرى فى مجال الثقافة والعلوم، وتم افتتاح هذه الحلقات أو هذه الكلية فى جامعة اللاتران يوم الاثنين 12 نوفمبر 2018 بمناسبة بدء العام الدراسى الأكاديمى وأصدر مؤسسوها بياناً بملامح هذا العلم الجديد، بأن هدفه إطفاء حرائق التعصب والعنصرية واحتقار الإنسان الآخر، ورفض أنانية ولامبالاة هذا العصر والتى تشعل الصراع على المال والسلطة، وتحول الأديان إلى أيديولوجيات أو نظريات تفرغ من عمق الإيمان الأًصيل والصحيح، كذلك هدف علوم السلام الوقوف مع المهمشين والضعفاء ، هذه العلوم تلبى حاجة الإنسان وعطشه الحاد إلى السلام، ومن ثم يتطلب الأمر إعداد الأجيال الصاعدة وتثقيف العقول وزرع بذور التفاهم والإنصات لصوت كل إنسان، كما يتطلب فهما سليما للقيم السامية وكرامة الحياة، ولابد من البحث عن وسائل لتصالح العقول وتقارب العواطف الإنسانية، وإشاعة العدالة واحترام الطبيعة وثرواتها، فتلك هى دعائم التنمية الحقيقية الدائمة، وأنه من الضرورى البحث عن حلول سلامية للقضايا العالمية والاجتماعية ، فكلية علوم السلام تهدف أيضا إلى إعداد شباب من كل جنس ودين ولون لثقافة واعية لمسيرة الإنسانية، وبخاصة بين شباب الجامعات ، لأن الجامعة فى كل مكان هى رمز الأمل فى المستقبل، وهى البيئة الخصبة لتربية شباب السلام ليقوم برسالته خلال هذا القرن الحادى والعشرين. لقد عاشت البشرية قرونا طويلة أكثر من ثمانية قرون فى مناخ فكر وثقافة العصور الوسطى، عصور الدين والحرب كما أطلق عليها، وإذا ظلت هذه الثقافة مهيمنة على بعض المجتمعات ستؤدى إلى عواقب وخيمة تحولها إلى مجتمعات لا يوليها المجتمع الدولى اهتماما ولا تلحق بركب الحضارة الحديثة وتظل على ضعفها وفقرها. إن دراسة علوم السلام تشجع شباب العالم على اختراق حواجز الإحساس بالغربة عن عالمهم وبالعجز أمام تقدم الأمم الأخرى، ولنعترف بأن حضارتنا المعاصرة بالرغم مما أتت به من إبداع ومعرفة غيرت منهج الحياة، فإنها حضارة اتسمت بالبرجماتية أو أنانية المصالح الشخصية، وبالواقعية المحدودة أكثر من المثالية والرؤية الموضوعية التى تحكم بالمنطق والعقل والفضيلة ، ولذلك بادرت بعض الجامعات ومنها جامعة اللتران إلى اختراق هذا الواقع ومجابهة المأساة الإنسانية، ومشهد العالم اليوم يثير الحيرة والشفقة، كما يبعث مشهد سوق السلاح على الخوف والشك فى مستقبل واعد مشرق، إن على سطح الكرة الأرضية حروبا إقليمية وحركات تمرد ومشاعر غضب عارم لما فى العالم من ظلم وعنصرية، فلا بد من بسط علوم السلام لعلنا نبنى بشرية جديدة، ومن المواد المقترح تدريسها دراسة فن الحوار الذى يتيح لكل إنسان أن يعبر بجدية عن فكره وأحاسيسه وهواجس عقله وقد تعلمت البشرية من الحروب الماضية، أن التلاقى والحوار السبيل الأفضل للوصول إلى السلام، وينبغى أن يكون الحوار على أساس من العلم والدراسة فلا يجدى حوار بين جهلة للتاريخ والفلسفة والاقتصاد وتطور الدنيا خلال خمسين عاما فاقت كل تطور قبلها، فالحوار هو الخطوة الأولى لبناء نظرية سلام عالمى، وإن عفة الكلمة ورقة التواضع وعمق الانصات لصوت الآخرين، شروط لأى حوار. ترى هل تنجح تجربة جامعة اللتران؟ وهل تنتشر فكرة كلية علوم السلام؟ لعلها محاولة تكتب الصفحات الأولى لتاريخ عصر جديد يسوده السلام وتقارب الجنس البشرى، إنها لمبادرة إنسانية رائعة أن تنتشر دراسة علوم السلام فى جامعات العالم. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته