اعتدنا دائما أن نقول إن الترجمة جسر بين الثقافات، وأن الترجمة أصبحت مؤشرا على تقدم الأمم وعاملا أساسيا فى التنمية البشرية. ويمكن لنا أن نذكر ما قاله عميد الأدب العربى طه حسين فى خطابه باليونسكو إن الترجمة أبرز علامة على وحدة العقل الانساني... إذا فتحنا المجال للحديث عن ضرورة الترجمة وإيجابياتها لن ننتهي، كما أن الجميع أصبح مقتنعا بذلك. ربما يكون من الأفضل أن نحاول التطرق إلى ما يظنه البعض من سلبيات الترجمة وما يجعل الترجمة موضع اشتباه. فقد اعتدنا فى ثقافتنا العربية أن نضع الترجمة فى مقابل الابداع، فالترجمة هى عبارة عن نقل لأفكار الآخرين وآدابهم. ونحن حين نترجم نكون مجرد ناقلين. ويسأل الناس حين إذن سؤالاً مشروعاً: متى نتوقف عن النقل ونتجه إلى الإبداع؟ ومتى نبدع فكرنا وأدبنا الخاص؟ نقول إنه لاتوجد ثقافة عاطلة تماما عن الابداع. فالثقافة هى إجابة فكرية على مشكلات تطرحها الحياة الاجتماعية. ومن هذه الوجهة لكل ثقافة إبداعها الخاص. حينما يخالجنا الشعور بأننا نعانى فقرا فى الابداع فهنا نقصد على وجه التحديد الابداع الذى يضيف إلى الفكر الإنسانى ويكون معترفا به من أصحاب الثقافات الأخري. ومن هذه الوجهة نحن محقون فى قلقنا لأن إبداعنا محدود. لكننا نخطئ حينما نتصور أن الترجمة مسئولة عن ذلك. فالواقع أن ما يحدث هو العكس تماما، إذ إن الفقر فى الترجمة هو الذى يفسر الفقر فى الإبداع. الترجمة هى شرط لكل إبداع. ولكى نعى ذلك علينا أن ننظر إلى الفترة المزدهرة فى تاريخ حضارتنا العربية الاسلامية. فقد نقل المترجمون من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية أعمال العلماء والمفكرين فى اليونان وفى الاسكندرية. فقد ترجمت رسائل جالينوس فى الطب وبطليموس فى الفلك وإقليدس فى الهندسة وأبولينوس فى البصريات، بالإضافة إلى أعمال الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. وجاءت اسهامات العرب العلمية والتى تحتل مكانة معترفا بها عالميا فى تاريخ تطور العلوم. جاءت اسهامات الرازى والخوارزمى والطوسى وابن الهيثم بفضل تعليقاتهم ومناقشاتهم للترجمات التى تمت عن أعمال العلماء الإغريق والسكندريين. ولا ندري، لو لم تترجم هذه الرسائل العلمية عن اليونانية، هل كان فى مقدور العلماء المسلمين إنجاز أى إضافة إلى تاريخ العلم؟ وهكذا أيضا كان هو الحال فى مجال الفلسفة، فانطلاقا من شروط النظر الفلسفى التى وضعها الفلاسفة اليونان طرح الفلاسفة المسلمون الذين يعيشون فى ظل ديانة توحيدية، قضايا جديدة فى الوجود والمعرفة واللاهوت لم يطرحها الفلاسفة الإغريق حول علاقة الله بالمخلوقات وتفسير وجود الشر فى العالم وخلود النفس والحساب، وهى القضايا التى سهلت انتقال الفلسفة إلى العالم الأوروبى المسيحي. ولكن ما هى ضرورة الترجمة بالنسبة للأدب؟ أليس لكل أمة آدابها النابعة من ثقافتها، والتى تعد إبداعا خاصا بها ويفسده كل تقليد؟ فى هذا المجال أيضا يكون دور الترجمة ضرورى وإيجابي. ويكفى للتذكرة بذلك أن أهم عملين فى تاريخ الأدب العالمى من الكلاسيكيات العربية وهما ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، كانا فى الأصل أعمالاً مترجمة. ورغم المكانة العالية التى وصل إليها الأدب العربى فى العصر العباسى فإننا فى القرن التاسع عشر تعرفنا، بفضل الترجمة، على أنواع أدبية جديدة لم تكن مألوفة فى أدبنا العربى مثل الرواية والمسرحية والتى تم ترجمتها وتلقيها بنهم شديد. وسرعان ما استوعب الأدباء العرب هذه الألوان الجديدة وبدأوا فى إنتاج إبداعهم، وصار من بينهم مبدعون كبار لهم مكانهم على خريطة الأدب العالمي، مثل توفيق الحكيم الذى بدأت ترجمة مسرحياته إلى اللغات الأجنبية منذ الثلاثينيات وبدأت عروضها على خشبات المسرح فى بلاد كثيرة ونجيب محفوظ الذى حصل على جائزة نوبل فى الرواية. شعورنا بفقرنا فى الابداع، فى فترة اتسمت بتراجع جهودنا فى الترجمة، دفع البعض إلى كتابة أعمال من نوع, نحو علم اجتماع عربي, أو نحو نظرية عربية فى النقد الأدبى أو علم الإحصاء الاسلامى وغيرها. ولم تكن النتيجة سوى حصيلة من البلاغة الفارغة التى لا تفيد العرب ولا تفيد غيرهم. والسبب هو أن كل هذه المحاولات كانت تفتقد إلى التفاعل الحى مع ما وصلت إليه العلوم الإنسانية فى الفكر العالمي. وأيضا لأنها لم تنشغل بتقديم إسهام تستفيد منه البشرية ويحظى باعتراف عالمي، ولكن كان الهدف منها هو إرضاء الهوية القومية وتكريس الشعور بأننا مكتفون بذاتنا، ولسنا فى حاجة لأحد. لا يمكن أن نحقق أى ابداع ونحن ندير ظهرنا للعالم. والترجمة هى التى ستضخ الدماء فى شرايين لغتنا العربية، وتزيد من طاقتها التعبيرية فى مختلف المجالات وتتواءم مع روح العصر. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث