* الاسلام أمرنا بالبر بأهل الكتاب فى مختلف المعاملات والمناسبات * انتشار "عيسى ومريم" بين أسماء المسلمين يعكس حفاوة المصريين بالمسيح وأمة
فى الوقت الذى يستعد فيه الإخوة المسيحيون للاحتفال بمولد السيد المسيح عليه السلام يتساءل الكثير منا: ما واجبنا نحن المسلمين تجاه نبى الله عيسي؟ ولعل ما فصله القرآن الكريم عن السيد المسيح وأمه، يبرز تلك المكانة التى يستحقانها، تقديرا واحتفاء.. فما كرم القرآن عيسى عليه السلام فى شخصه أولا، بل كرم أمه التى حملته (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ). وما كرم أمه إلا بعد أن كرم أمها من قبل (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وما كرم أمها إلا بعد أن كرم زوجها وآلها من قبل، وما كرم الله أهلها «آل عمران» إلا بعد أن كرم آل يعقوب من قبل (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)، وما كرم الله آل يعقوب إلا بعد أن كرم إبراهيم وذريته من قبل (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ).. فلا تطيب الثمرة إلا وقد طاب أصلها من قبل (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين ٍبِإِذْنِ رَبِّهَا). ويوضح الدكتور محمد أبو زيد الفقى، عميد كلية الدراسات الإسلامية سابقا، وعضو الرابطة العالمية للحوار بين الأديان، أن القرآن الكريم احتفل بميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام لأنه كان يحمل فى ذاته معجزة، أما السيدة مريم فقد كرمها الله تكريما مقصورا عليها ولم يتعده إلى غيرها فقال تعالى (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ). ومن حقنا نحن المسلمين، ويجب علينا إيمانا أن نحب ونجل جميع الأنبياء والمرسلين ولا نفرق بينهم؛ فالتفريق بين الأنبياء معصية، والإصرارعليها قد يؤدى إلى معصية أكبر، فعيد ميلاد المسيح يجب أن يكون فرحة عند جميع المسلمين يملؤها التوقير والتعظيم لله تعالى والتفكر فى قدرته ومعجزاته. والاحتفال بمعجزة الميلاد لا يغنى عن الاحتفال بما وصل إلينا من أخلاق نبى الله عيسى ابن مريم، فقد كان يوصى بالتواضع وبحب الفقراء والمساكين والأبرار والمذنبين؛ حتى يعطيهم هذا الحب طاقة على التوبة..من هنا كان الاحتفال بالمسيح احتفالا بجوهرة من صندوق جواهر ننبهر بها جميعا ولا نفضل إحداها على الأخرى. وقد أظهر القرآن الكريم مكانة مريم فى أكثر من موضع وبين قوة إيمانها بالله تعالى واعتمادها عليه، عندما جاءها رسول ربها يبشرها بأنها ستحمل وتلد، وقال لها بعد أن دخل عليها من غير أن يطرق بابا أو شباكا (قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) أى أنها لا تعرف إلا الرحمن ولا تعتمد إلا على الرحمن، وهذا درس إيمانى عظيم يجب أن نقتدى به فى قوتنا وضعفنا وفى أفراحنا وأحزاننا، فمريم لم تُعرف بالطهارة فقط، وإنما عرفت بقوة العقيدة ونضارة الإيمان. ويرى الدكتور إبراهيم عوض، أستاذ الأدب العربى بكلية الآداب جامعة عين شمس، أن السيدة مريم مثال متفرد غير متكرر بدليل أن القرآن أفرد لها سورة باسمها، ولم يفعل ذلك مع أمهات المؤمنين رضى الله عنهن، ولا زوجات أو بنات الأنبياء السابقين. وللمسيح فى الأناجيل الأربعة مواعظ كثيرة تتفق مع القرآن الكريم فى كثير من نصوصها وتدعو فى معظمها إلى السمو بالإنسان والصعود به إلى مراتب عزيزة تليق بمستواه؛ لأن الإنسان هو وعاء الرسالات ومجال الهدايات، ومنها قوله عليه السلام: (لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل)، وقوله (..أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ). ميلاده آية بينما يدعو الدكتور رمضان عبد العزيز عطا الله، أستاذ ورئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين، الأمة المصرية للاحتفال بميلاد المسيح، عليه السلام، الذى كان ميلاده آية من الآيات التى تحدث عنها المولى، تبارك وتعالى، فى أكثر من موضع فى القرآن الكريم. ومادام عيسى، عليه السلام، آية فلابد أن يتدبر المسلمون فى هذه الآية، وكلما جاء الموعد الذى ولد فيه عيسى عليه السلام، وجب على المسلمين أن يحتفلوا بميلاده، ولأجل ذلك وجدنا أن عيسى عليه السلام، يحث على الاحتفال بيوم مولده عندما قال: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ)، فاليوم الذى ولدت فيه كان رحمة وسلاما من الله لكل من آمن بى، والمسلمون يؤمنون بعيسى كإيمانهم بمحمد، صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك جاء فى الحديث أن النبى قال: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، ومادام عيسى، عليه السلام، قد بشر برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم والنبى قال أنا أولى الناس بعيسى، فالمسلمون أولى الناس بالاحتفال بميلاد عيسى عليه السلام. ويؤكد المستشار عبدالعاطى الشافعى، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وعضو المجمع العلمى، أنه لا يصح إسلام المسلم ولا يصدق إيمانه إلا إذا آمن بالسيد المسيح ،عليه السلام، إيمانه بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ مصداقا لقوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). وأمه هى المرأة العظيمة الوحيدة التى احتفل بها القرآن الكريم كما لم يحتفل بغيرها فخصص سورة باسمها سورة مريم من 98 آية، وكرم أهلها وذويها وبخاصة أبوها عمران بسورة كاملة من200 آية «آل عمران»، وهى السورة الثانية فى ترتيب سور القرآن الكريم، كما ورد ذكرها منفردة أو مع ابنها المسيح عليهما السلام فى 34 موضعا آخر فى القرآن الكريم. فما أعظمها من حفاوة وما أجله من احتفاء فى القرآن! ومن مظاهر هذه العظمة أن مئات الآلاف من المصريين المسلمين يتسمون بهذين الاسمين الكريمين عيسى ومريم عليهما السلام. ويقول الدكتور محمد عبدالعاطى عباس، عميد كلية الدراسات الإسلامية للبنات بالقليوبية: إن مريم فى الإسلام هى وليدة دعوة أمها، وربيبة نبى «وكفلها زكريا»، والمكان المقدس «المحراب» هو موطن تربيتها، ورعاية الله فوق كل ذلك،إذ (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىلَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). وعيسى عليه السلام فى القرآن الكريم هو مضرب المثل فى البر والتقوى. ولما وضعته أمه واستصرخت أهلها واتهموها بما تتهم به المرأة التى لا زوج لها وتلد طفلا، فإذ به ينطق مبرئا أمه (قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا(30) وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا(32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا). وحينما نقرأ القرآن الكريم لا نجد فيه ذكرا عن ميلاد أحد من الأنبياء سوى نبيين عظيمين كريمين هما: موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ وما ذلك إلا لأن كل واحد منهما قد أحدث دويا فى الكون عند ميلاده، كما حثنا القرآن الكريم على التعامل الحسن الراقى بأهل الكتاب وخاصة إخواننا المسيحيين، بقوله تعالى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ). وأراد الله أن تكون المودة والمحبة سارية بيننا وبين إخواننا المسيحيين فقال تعالى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ). كما أن الله عز وجل نهانا عن أن نعتدى على إخواننا المسيحيين المسالمين وأمرنا بالمودة فيما بيننا وبينهم، فقال تعالى (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من اعتدى على إخواننا المسيحيين بأنه لن يرح ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. ونحن المسلمين ديننا يأمرنا أن نشيع السلام فى العالم، وأن ننظر إلى الذين يغايروننا فى الدين على أنهم إخوان لنا فى الإنسانية أو نظراء لنا فى الوطن؛ فليس هناك ما يسمى أكثرية ولا أقلية، ولكن هناك ما يسمى عنصرى الأمة، فيقوم هذا الوطن بشباب المسلمين والمسيحيين. ويقول الدكتور حسام الدين بدر، الأستاذ بكلية اللغات والترجمة: لم يكن غريبا أن يرحب الشعب المصرى بالأنبياء والديانات السماوية؛ فقد دافع واحد من آل فرعون عن موسى، كما ورد فى سورة «غافر»؛ كما احتضنت مصر القسيس مرقص، أحد حوارى المسيح، ليؤسس أول كنيسة خارج فلسطين فى النصف الأول من القرن الأول الميلادي، حتى شاعت مقولة «ولد المسيح فى الناصرة وولدت المسيحية فى مصر»، ومن هذه الكنيسة انطلقت المسيحية إلى إفريقيا كلها بدءا ببرقة وليس انتهاء بإثيوبيا. وحين اعتنق الرومان المسيحية كانوا على مذهب مخالف للمصريين، واستمر الاضطهاد وكان الخلاص على يد رسالة سماوية أخرى ألا وهى الإسلام، الذى تسامح مع المسيحيين الأقباط وأعطاهم المواطنة كاملة، لتظل رايتا محمد والمسيح ترفرفان على ضفاف النيل فى تناغم نادر يتجلى فى التأثر والتأثير فى العادات والتقاليد والطرز المعمارية فى دور العبادة؛ حتى لا تكاد تميز بين مقام الولى وقبر القديس، ولا طقوس الاحتفال بالمولد النبوى وبين مولد العذراء، بل إن أيا من المولدين عيد للاحتفال يشهده المسلمون والمسيحيون على السواء.