لم تحظ السياسة الخارجية المصرية بنصيب واف في النقاشات الحامية التي شهدتها الساحة المصرية بعد ثورة25 يناير, واقتصر الأمر أحيانا علي بعض العناوين دون تمحيص وتدقيق, فكانت هناك إشارات غامضة حول الموقف من اتفاقية السلام مع إسرائيل, وموضوع العلاقات مع إيران, ودول حوض النيل.. ولعل ذلك مفهوم علي ضوء ضخامة حجم المتغيرات الداخلية, وحالة السيولة التي يشهدها الجدل السياسي الداخلي, فقد نجح المصريون في شرخ جدار الخوف الذي كان يحجز خلفه هموم وأحلام الشعب, فخرجت هذه الهموم من كهوفها لأول مرة في ضوء الشمس, تندفع بغير هدي في كل اتجاه, تتصادم وتسقط وتنهض, وانطلقت الأحلام من أقفاصها لتخترق حواجز كل التوقعات المعقولة وغير المعقولة.. زلزال لحقت به سلسلة من التوابع لا تقل ضراوة عن الزلزال الأصلي, ولكن بين كل هذا الدخان الكثيف ينبغي أن نحاول تلمس طريق المستقبل. وفي البداية ينبغي إدراك أن كل متغير داخلي جذري في أي دولة, يلحق به أو ينبني عليه متغير في سياستها الخارجية, فعلي سبيل المثال, كان تولي السادات رئاسة مصر بعد وفاة عبد الناصر متغيرا ترتب عليه فيما بعد سلسلة من المتغيرات علي السياسة الخارجية, نقلتها من النقيض إلي النقيض. وبدون دخول في تفاصيل تاريخية تؤكد تلك الحقيقة, ولأغراض مساحة المقال, فان ما أود التركيز عليه هو مقدار التغير المحتمل أو المطلوب في الخطوط العامة للسياسة الخارجية المصرية. إذا كانت أحد أهم مطالب الثورة المصرية هي الحرية, فأن انعكاسها خارجيا ينبغي أن يتمثل في إستقلال الإرادة الدولية المصرية, ويتطلب في المقام الأول التخلص من سياسة التبعية التي تسببت في تقييد حركة صانع القرار المصري, بل وإذلاله في مواقف عديدة مشهودة, منها مثلا اختطاف طائرة مدنية مصرية في عرض الطريق الجوي الدولي بواسطة طائرات الدولة التي كانت القيادة المصرية تتغني بالتحالف معها, بل ووصل الأمر إلي تكميم صوت القيادة المصرية في مجرد إبداء إعتراض جدي علي عربدة القوات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة. إستقلال الإرادة الدولية المصرية هو عنوان رئيسي, يتضمن تفاصيل عديدة أبرزها ضرورة مراجعة العلاقات المصرية الأمريكية لتنظيفها من شوائب التبعية, وبنائها علي أساس المصالح المتبادلة, مع الحرص علي عدم ربط إستراتيجيتنا المستقبلية بأهواء ومغامرات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط, ولن يكون ذلك إلا برسالة واضحة وجدية للإدارة الأمريكية بأن قواعد اللعبة في المنطقة قد اختلفت, وأنها سوف تخسر إذا استمرت في استخدام القواعد القديمة. ويرتبط بذلك, أهمية تفعيل الدور الإقليمي لمصر في مجالين رئيسيين: المجال العربي والمجال الإفريقي, لأنهما يمثلان قاعدة الانطلاق في استقلال الإرادة الدولية لمصر, وذلك يعني تحركا دبلوماسيا وإقتصاديا وثقافيا جريئا لاكتشاف وخلق المصالح المشتركة, تتخلص فيه السياسة المصرية من عبثية الإهتمام بالشكل علي حساب المضمون, فلا يكفي مثلا أن تكون البعثات الدبلوماسية المصرية متناثرة في كل دول القارة الإفريقية, وإنما يجب أن تكون مزودوة بأفضل العناصر والإمكانيات, وألا يقتصر دور الصندوق المصري للتعاون الفني مع إفريقيا علي مجرد إيفاد مبعوثين أو استقبال دارسين, وإنما يجب إعادة النظر في جميع البرامج وترشيدها وتعظيم الفائدة المرتجاة منها. وإذا كانت العدالة الاجتماعية هي أحد أهداف الثورة المصرية, فان انعكاسها علي السياسة الخارجية يجب أن يتمثل في تفعيل دبلوماسية التنمية, بحيث تتحول وزارة الخارجية وبعثاتها في الخارج إلي خلايا نشيطة تنقل أبرز التجارب الناجحة في التنمية, وتروج للاستثمار والسياحة في مصر, وذلك بتدريب الكوادر وإعدادها كي تؤدي هذا الدور بالكفاءة اللازمة, مع إيجاد آليات تنسيقية بين إدارات الوزارة ذات الصلة وإدارات مختصة في مختلف الوزارات الأخري, تعمل بشكل دوري وتقدم تقاريرها ومقترحاتها لتحويلها إلي خطط عمل وإستراتيجيات قصيرة وبعيدة المدي. السياسة الخارجية المصرية أيضا يجب أن تخدم أهداف الأمن القومي المصري, الذي يتحدد جغرافيا بالعمق العربي والإفريقي, وهي في ذلك تكون إحدي أدوات جهاز فعال للأمن القومي المصري, يضم بالإضافة إلي وزارة الخارجية, وزارات الاقتصاد والمالية والداخلية والضمان الاجتماعي فضلا عن أجهزة الأمن ذات الصلة, تحت قيادة مستشار للأمن القومي يعمل بشكل مباشر مع مؤسسة الرئاسة. إذا كانت السياسة الخارجية هي إمتداد للسياسة الداخلية, فأن التأثير والتأثر المتبادل بين السياستين يجعل السياسة الداخلية بشكل ما تتأثر بتوجهات السياسة الخارجية, بل يحدث كثيرا أن تؤدي متغيرات خارجية لتغيرات في السياسة الداخلية. وإذا كانت مساحة المقال لا تسمح سوي بمجرد الطرق علي أبواب الموضوع, فأنه قد يكون من الضروري أن تشهد المرحلة القادمة المزيد من المناقشات والدراسات حتي يستوفي هذا الموضوع المهم حقه, لأن إكتمال نجاح الثورة المصرية لن يقتصر علي مجرد إصلاحات داخلية, وإنما بانطلاقها عبر الحدود تفاعلا مع العالم, تأثرا وتأثيرا, وهو ما يحقق مزيدا من الإستقرار والنمو, ولا يجوز لمصر الثورة أن تواصل نفس السياسة الخارجية السابقة التي أدت إلي إنكماش الدور المصري علي المسرح الدولي, وتراجع وزنها النسبي الذي تستحقه في إطارها الإقليمي العربي والإفريقي. المزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق