مع بوادر إعادة انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين لولاية ثالثة بعد تخليه عن منصبه فى عام 2008 فى إطار ما عُرِف تحت اسم «سيناريو التوريث على طريقة بوتين-ميدفيديف»، وفى توقيت جاء عقب انزلاق روسيا صوب حالة كانت فى جوهرها أشبه بمقدمات «الثورات الملونة» فى الفضاء السوفيتى السابق، وثورات «الربيع العربي» فى منطقة الشرق الأوسط ، أعلن عدد من ابرز رجالات الساحة السياسية والاجتماعية وبمبادرة صريحة من جانب الرئيس فلاديمير بوتين عن تأسيس «الجبهة الشعبية لعموم روسيا» فى مايو 2011. آنذاك وفى فولجاجراد التى شهدت بداية التحول نحو انتصارات الاتحاد السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية، وبما يتجاوز التلميح فيه حد التصريح، ومع احتفالات روسيا بأعياد النصر على الفاشية، أعلن بوتين مبادرته حول تأسيس الجبهة الشعبية التى تضم بين صفوفها كبريات الحركات السياسية والنقابية والتجمعات الشعبية فى كل أرجاء روسيا ، وبما يعنى تجاوزها الحزب الحاكم «الوحدة الروسية»، الذى طالما اعتمد عليه منذ انتخابه لأول مرة فى مايو 2000، ومن اللافت فى هذا الصدد أن هذا الإعلان من جانب بوتين، جاء إبان انعقاد المؤتمر السنوى الإقليمى لحزب «الوحدة الروسية» فى فولجاجراد والذى تزعمه لسنوات طوال دون الانضمام رسميا له، وعقب ما عصف بموسكو وكبريات المدن الروسية من مظاهرات جماهيرية وأحداث شغب تزعمتها فصائل المعارضة اليمينية الليبرالية، والمؤيَدة فى معظمها من جانب من سبق ووقف وراء انفجار «الثورات الملونة» فى جورجيا وأوكرانيا وغيرهما من بلدان الاتحاد السوفيتى السابق. آنذاك بات واضحا ان الرئيس الروسى فى سبيله إلى التخلى عن الحزب الحاكم، الذى عجز عن مواجهة تلك الأحداث التى انفجرت مع نهايات 2011 ومطلع 2012 ، وانزلق زعيمه الجديد ديميترى ميدفيديف وكان آنذاك رئيسا للدولة، نحو العديد من التنازلات ومنها إقرار عدد من القوانين التى تضفى الشرعية على العديد من أوجه نشاط هذه التنظيمات المعارضة، التى سُميت فى ذلك الحين بالمعارضة «غير الممنهجة»، والتحول نحو «جبهة» أكثر راديكالية، وأشد تأثيرا واتساعا، وأبعد تغلغلا فى أعماق الدولة الشاسعة المساحات ،المترامية الأطراف ،المتباينة الأجناس والأعراق. وذلك ما عاد بوتين ليعلنه فى اجتماعه مع قيادات هذه الجبهة فى لقاء جمعه معهم فى مقر إقامته فى نوفو-اوجاريوفو بضواحى موسكو فى 18 أكتوبر 2012. فى ذلك الاجتماع اعترف بوتين بأنه لا يقصد بمبادرته حول تأسيس هذه الجبهة البحث عن تشكيل سياسى آخر، بقدر ما يستهدف تأسيس حركة شعبية تتسع لممثلى كل الأطياف. ومضى ليقول إن الأهداف الأساسية لقيام هذه «الجبهة» تتمثل فى ضرورة تحولها إلى الآلية الأكثر نفاذا وتأثيرا لمتابعة تنفيذ ما يصدر عن رئيس الدولة من مراسيم وتوصيات، والتعاون فى الكشف عن الفساد والحيلولة دون تجاوزات ممثلى الأجهزة التنفيذية، والتشريعية والقضائية. ولم يمض من الوقت الكثير حتى توافد الآلاف من الشخصيات الاجتماعية والسياسية وممثلى التنظيمات النقابية والنسائية والشبابية وقدامى المحاربين لحضور المؤتمر التأسيسى للجبهة فى موسكو فى يونيو 2013. ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى ما قاله طبيب الأطفال الشهير ليونيد روشال حول أن الجبهة الشعبية تتميز عن الحزب الحاكم وغيره من بقية الأحزاب والحركات السياسية فى روسيا، بتركيزها على النشاط المجتمعى والانصراف أكثر للكشف عن السلبيات والنقائص، وطرح المبادرات والحلول لما يصادفه المجتمع من مشكلات، دون استهداف الوصول إلى السلطة. ونضيف فى هذا الشأن ما ينص عليه ميثاق تأسيس الجبهة حول أن العمل فى إطارها «تطوعى دون مقابل» من جانب أى من مواطنى الدولة الروسية فوق سن الثامنة عشرة، وان الانضمام إليها والتخلى عن عضويتها «دون قيود». وقد بلغ عدد أعضاء هذه الجبهة حتى تاريخه فى عام 2018 ما يزيد على مائة ألف من النشطاء، وما يتراوح من 20 وحتى 25 ألفا من الخبراء والمتخصصين. أما عن مصادر تمويل الأنساق القيادية للجبهة فتقتصر على تبرعات الأثرياء من أعضائها وممثلى المؤسسات التجارية والاجتماعية، إلى جانب ما يرصده الكرملين من مخصصات مالية لدعم نشاطها وبما يقيها «شرور» التمويل الخارجي. وقد شهدت الفترة الماضية منذ الإعلان عن قيام الجبهة رسميا فى عام 2013 وحتى نهاية عام 2018 العديد من الاجتماعات والمؤتمرات التى حرص من وقف وراء تنظيمها، على عقدها فى مواقع متفرقة فى مختلف أرجاء الوطن، فى إشارة واضحة إلى الرغبة فى حشد المؤيدين لها من جانب الملايين من أبناء الدولة الروسية، وبما يمكن ان تكون معه تكئة لانطلاقات جديدة نحو نشر أفكارها واستمالة أعضاء جدد من اجل تحقيق أهداف هذه الجبهة. ويذكر المراقبون ما تقدم به ممثلو وقيادات هذه الجبهة من مبادرات وأفكار، سرعان ما أعلنتها الحكومة الروسية ضمن أولوياتها وخطط عملها ، فى نفس الوقت الذى كانت فيه موضع اهتمام المؤسسات التشريعية والمجالس المحلية. ولعل ذلك كله، إضافة إلى ما تقدمت به من تقارير ترصد فيها نتائج عمل ممثلى الجبهة الشعبية ، هو ما أسفر عن كشف الكثير من قضايا الفساد وإهدار المال العام، واعتقال ومحاكمة المتورطين فيها من كبار قيادات الأقاليم وموظفى أجهزة الدولة، وتصحيح ما اعترى نشاط هذه الأجهزة من قصور فى مختلف القطاعات بما فيها التعليم والصحة والإسكان والثقافة وحماية البيئة وغيرها من المجالات. فهل يمكن أن يكون ما سردناه من تفاصيل ظروف نشأة ونشاط »الجبهة الشعبية لعموم روسيا«، نموذجا يمكن البناء عليه لتجاوز ما يعترى العمل المجتمعى من ركود، ولتوفير الأرضية المناسبة لتفعيل المبادرات الشعبية ؟! .. مجرد تساؤلات، أخالها ليست فى حاجة إلى إجابات.