ما هى الاشكالية التى واجهتها الليبرالية باعتبارها أعلى مراحل العلمانية فى علاقتها بالدين؟ المقصود بالليبرالية فى هذا السؤال هى الليبرالية الغربية. ومن حيث هى كذلك هى فى حالة صراع الآن مع الأصولية الاسلامية وإرهابها المتمثل فى حركة الإخوان المسلمين ومالازمها من جماعات اسلامية متعاطفة معها من أجل تأسيس الخلافة الاسلامية على كوكب الأرض مستندة فى ذلك التأسيس إلى روح العسكرية والاستشهاد. فقد قال البنا مؤسس الحركة: إن الاخوان هم جيش التحرير يحمل على كتفيه رسالة التحرير، وأنهم جيش الخلاص لأمة ملوثة بالكوارث. والمفارقة هنا أن الليبرالية فى صيغتها العلمانية ليست كوكبية على غرار كوكبية الأصولية الاسلامية. وقد اتسعت هذه المفارقة بدخول الماركسية فى الليبرالية فاتهمت الأخيرة بأنها ملحدة. وقد أدى هذا الدخول إلى عزل الثقافة عن الاقتصاد، ومن ثم توارت الليبرالية. ومع تصاعد الأصولية الاسلامية فى سياق تصاعد الأصوليات الدينية الأخرى فطن الغرب إلى ضرورة إعادة العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، وقد كان، إذ انعقد فى عام 1982 مؤتمر كوكبى فى مكسيكو سيتى تحت عنوان السياسات الثقافية، وكان المشاركون هم الأعضاء فى منظمة الأممالمتحدة وانتهى المؤتمر بتوصية تنص على إعلان عقد التنمية الثقافية ابتداء من عام 1988 حتى نهاية عام 1997، أى قبل نهاية القرن العشرين بثلاث سنوات. وفى عام 1988 وفى العام نفسه قررت الأكاديمية الأمريكية للعلوم والآداب منح جامعة شيكاغو مليونين ونصف مليون دولار لإصدار خمسة مجلدات عن الأصوليات الدينية، وقد كان. وحيث إن الارهاب هو أعلى مراحل الأصوليات الدينية فمعنى ذلك أن الارهاب وارد ضمنياً سواء فى الندوة التى عقدتها أو فى القرار الذى اتخذته الأكاديمية الأمريكية. ومع ذلك كله حدثت كارثة كوكبية فى 11/9/ 2001 عندما تحول مركز التجارة العالمى بنيويورك إلى ركام بفعل اختراق طائرتين تقودهما جماعات أصولية اسلامية له، ومن ثم اشتعلت الحرب على الارهاب إلا أنها أفرزت خسائر بشرية وتكلفة اقتصادية بلغت 6.5 تريليون دولار ابتداءً من ذلك العام مع حدوث أزمة اقتصادية كوكبية فى عام 2008. ومع تصاعد الارهاب حدث انشقاق داخل الدول الغربية بما يعنى صعود تيار متعاطف مع الارهاب بدعوى أنه رد فعل مبرر من قبل العالم الاسلامى تجاه العالم الغربى الاستعماري. ولكنه كان يعنى أيضاً صعود تيار يمينى مسيحى معادٍ للأصولية الاسلامية. ومن ثم أصبح كوكب الأرض مرة أخرى فى مواجهة حضارتين. ومن هنا صدر كتاب صمويل هنتنجتون المعنون صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي. وقد تنبأ فيه بأن الصدام القادم مزدوج: صدام بين الغرب وما تبقى على مستوى كوكب الأرض، وصدام بين الاسلام وما تبقى على مستوى جزء من ذلك الكوكب. أما أنا فأظن أن الصدام القادم هو بين الحضارة وما عداها. وإذا كان ذلك كذلك فإن الجزء الأول من عنوان كتاب هنتنجتون يسقط ويبقى الجزء الثانى مع تعديل طفيف فيكون على النحو الآتي: إعادة الليبرالية بديلاً عن إعادة بناء النظام العالمي, إذ يكتنفه الغموض، ولكن بشرط اعتبار الليبرالية ظاهرة حضارية كوكبية تواجه الآن تدهوراً بلا حدود، وهو أمر كان من شأنه أن دفع المفكر الأمريكى من أصل هندى فريد زكريا إلى صك مصطلح اللاليبرالية الديمقراطية. وقد استلهمه من تحليله للدول النامية بوجه عام وللهند بوجه خاص. وهو يستند فى تحليله إلى مسلمة تقوم على أن الحكومة الديمقراطية مرادفة للسلطة المطلقة. فعندما استقلت الهند فى عام 1947 كان نهرو رئيساً للوزراء حتى عام 1964، وكان يحكم باسم حزب المؤتمر الذى كان مهيمناً على جميع أنحاء الهند، وكان علمانياً ومتسامحاً دينياً. وهذه ديمقراطية بحزب واحد. ولكن مع ضعف الحزب تأسس حزب جديد مناقض له اسمه حزب براتيا جناتا وهو حزب أصولى هندوسى يحكم الهند الآن برئاسة مودى الأصولي. الديمقراطية لا تعنى تداول السلطة إنما تعنى هوية السلطة وعندئذ يكون التساؤل عما إذا كانت السلطة علمانية أم أصولية. ولا أدل على صحة رأيى مما حدث فى المانيا فى زمن هتلر وفى غزة فى زمن هنية. ففى عام 1933 استولى هتلر على السلطة بالديمقراطية ثم تنكر لها عندما طرد الفلاسفة والعلماء اليهود ثم أعلن أن الشعب الألمانى هو الممثل الشرعى للجنس الآري. وفى هذا المعنى قال:إن رسالتنا هى التحكم فى الشعوب الأخري، وأن الشعب الألمانى مدعو إلى أن يكون سيد هذا العالم وبعد ذلك أشعل نيران الحرب العالمية الثانية التى انتهت بهزيمته ومن ثم إلى انتحاره. أما فى غزة فقد استولت حماس على السلطة فى عام 2007 بالانتخابات الحرة ثم تنكرت لها عندما انكشفت هوية حماس بأنها هوية إخوانية بمعنى أنها فرع للاخوان المسلمين. وترتب على ذلك دخولها فى صراع أصولى مع اسرائيل من أجل تدميرها مستندة فى ذلك إلى ايران وحزب الله. والسؤال بعد ذلك: ماذا حدث للعلمانية فى علاقتها بالدين فى المانيا وفى غزة؟ فى الجواب عن هذا السؤال أحذف غزة لأن العلمانية ليست واردة إنما الوارد هو الأصولية بلا منافس، ومن ثم اكتفى بما حدث فى ألمانيا فى زمن هتلر مع اللاهوتيين البروتستانت وفى المقدمة القس ديتريش بونهوفر. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة