هل ستحافظ أوروبا على ما هى عليه وتظل لؤلؤة العالم والعقل المدبّر لنطاق واسع منه، أم سيجبرها الواقع على أن تكون أكثر ارتباطًا بقارة آسيا؟. هذا السؤال عمره قرن تقريبًا، بالضبط 99 سنة، طرحه بول فاليري، وهو شاعر فرنسى عظيم كانت له آراء عميقة فى القضايا السياسية الدولية المهمة، وتوفى سنة 1945 عن عمر يناهز الثالثة والسبعين. ومن وقتها وهو يرقد فى مقبرة أطلقوا عليها عنوان إحدى قصائده: المقبرة البحرية، ربما كان يتابع منها، الآن، نتائج ما شهدته السنوات ال73 التى تلت وفاته من تغيرات وتقلبات، جعلت حلم أكثر الأوروبيين تفاؤلًا هو إعادة ترميم القارة العجوز، بينما يقول الواقع إنها غرقت (ولا تزال) فى أزمات، ودخلت فى حالة من الجمود، قد تستمر لعقود مقبلة، فى حين ظلت آسيا تتحرك بوتيرة متسارعة، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، اقتصاديًا وعسكريًا. باستبعاد النمور الآسيوية واليابان من المعادلة، ستجد أن العالم، الآن، صار موزعًا على كفتين، الصينوروسيا فى واحدة، والولاياتالمتحدة فى الأخرى، مع ترجيحات بأن الكفة الأولى أكثر ثقًلا، أبرزها وأهمها ما جاء فى تقرير حديث أصدرته لجنة إستراتيجية الدفاع الوطنى التابعة للكونجرس الأمريكى بأن الولاياتالمتحدة قد تخسر أى حرب فى مواجهة الصين أو روسيا. وبين الكفتين أو (الجهتين) تقف أوروبا بلا أى ثقل وكأنها لا شيء. وبينما تتأرجح بعض الدول بين الكفتين، وضعهما الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، معًا، ضمن القوى التى تهدد أوروبا، وهو يعلن دعوته (أو يطرح فكرته) الخيالية بإنشاء جيش أوروبي. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وضعت غالبية الدول الأوروبية (الكتلة الغربية) أمنها وسلامتها تحت مظلة الحماية الأمريكية، عبر حلف شمال الأطلسي، وفشلت كل محاولات إيجاد مظلة أوروبية بديلة، التى كان آخرها دعوة الرئيس الفرنسى التى لم تلق ترحيبًا إلا من المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بينما قابلها غالبية قادة الدول الأوروبية إما بالصمت أو بالسخرية كأن يعلن مارت روبير، رئيس الوزراء الهولندي، أنها سابقة لأوانها، وأنه من الوهم تصور قدرة الاتحاد الأوروبى على ضمان سلامته بعيدًا عن حلف شمال الأطلسي. لا يعنى ذلك، فقط، أن دعوة ماكرون ستنتهى إلى لا شيء، بل يعني، أيضًا، رضوخ دول أوروبا لمطالبات الرئيس الأمريكي، الفجة والمتكررة، بزيادة إنفاقها الدفاعي، وتحمّل أعباءَ أكبر فى ميزانية الحلف. الأوروبيون، أعضاء حلف الناتو يخصّصون نحو 250 مليار دولار لدفاعهم، لكن هذا الرقم لا يناسب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذى يريد المزيد ويريد أيضًا الإبقاء على نوع من العلاقة التراتبية مع الأوروبيين. ولاحظ أن الولاياتالمتحدة، إلى جانب تفوقها العسكرى والاقتصادي، لديها أيضًا منظومة متكاملة للسيطرة على الرأى العام، المحلى والدولي، تجعلها تتفوق فى التلاعب بالعقول!. فى كتاب الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية، توقع جون جراى أن تؤدى محاولة فرض السوق الحرة على النمط الأنجلو أمريكي، إلى كارثة إنسانية، لأنها صنعت رخاء اقتصادياً زائفًا لم يحقق منها معظم الأمريكيين فائدة تُذكر. ولأنها، وفق تصوره، تسببت فى انهيار اجتماعى للولايات المتحدة. وخرج جراى من ذلك بأن الأسواق الحرة، وخراب المجتمعات المحلية، واستخدام العقوبات الجنائية كملاذ أخير، تتقاطر بعضها فى إثر بعض، لتدمر مؤسسات أخرى، يتوقف عليها التماسك الاجتماعي. جون جراي، أستاذ اقتصاد بريطانى بجامعة أوكسفورد، ينتظر منذ 1998 لحظة انكسار وسقوط قوة أمريكا وانتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية. وله فى ذلك مئات المقالات والدراسات، منها مقال نشرته الأوبرزفر فى 28 سبتمبر 2008 توقع فيه أن تؤدى الأزمة المالية التى شهدتها الولاياتالمتحدة، وقتها، إلى السقوط بالطريقة نفسها التى سقط بها الاتحاد السوفييتي. كما استنتج أن نظام السوق الحرة (النمط الأنجلو أمريكي) يدمر نفسه بنفسه، وأن الدول التى احتقرت النظام الرأسمالى الأمريكى هى التى ستقوم بإعادة تشكيل مستقبل الولاياتالمتحدة الاقتصادي!. بعد مرور عشرين سنة على صدور الكتاب، وعشر سنوات على نشر المقال، تكون السخرية منهما ومن جراي، هى رد الفعل الأنسب, بالضبط كما فعل الرئيس الأمريكى مع الرئيس الفرنسي، تعليقًا على الاحتجاجات العنيفة التى شهدتها (ولا تزال) فرنسا بسبب محاولة فرض رسوم إضافية على الوقود. إذ كتب ترامب فى حسابه على تويتر مساء الثلاثاء: أنا سعيد لأن صديقى إيمانويل ماكرون والمحتجين فى باريس توصلوا للنتيجة التى توصلت إليها منذ عامين، فى إشارة إلى انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق الخاص بالتغيرات المناخية. الواقع يجبر أوروبا على أن تكون أكثر ارتباطًا بقارة آسيا. وإلى أن يأتى الحل من الصين أو روسيا، ستظل القارة العجوز تتقلب على الصفيح الساخن، والأرجح هو أن تتقاعد ميركل فى 2021 ويغادر ماكرون الإليزيه فى 2022، بينما سيستمر ترامب رئيسًا للولايات المتحدة حتى نهاية 2024. وعليه، ستستمر موجات الحر، التى من المرجح جدًا أن تزداد شدتها، ليس فقط بفعل التغير المناخي، ولكن أيضًا لوجود مؤشرات كثيرة على أن العالم سيشهد خلال السنوات القليلة المقبلة تقلبات سياسية واقتصادية، لن تجعل الراكب راكبًا ولن تترك الماشى فى حاله. وإلى أن يحدث ذلك، لن تجد أوروبا ما تفعله غير العودة إلى قصائد بول فاليري، لتطلق ما فى نفسها من رغبات، وما فى ذهنها من أحلام، وما فى قلبها من أحاسيس!. لمزيد من مقالات ماجد حبته