قد يتبادر إلى الأذهان أن احتجاجات السترات الصفراء فى فرنسا مدبرة من جانب الولاياتالمتحدة، ربما لأنها اندلعت بعد تصريحات للرئيس الفرنسى ماكرون عن ضرورة إنشاء جيش أوروبى مستقل عن حلف الناتو الذى تسيطر عليه الولاياتالمتحدة، أو لوجود قواسم مشتركة مع الثورات الملونة، التى دعمتها الولاياتالمتحدة فى عدة دول، مثل الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي، ووجود رمز لوني، والحفاظ على الحشود لفترة طويلة وتنقلها بين عدة أماكن، وظهور شباب يرتدى أقنعة ويهاجم الشرطة ويشعل النيران، وطرح شعار ارحل يا ماكرون، لكن لا تبدو كل هذه الأسباب مقنعة، فطرح إنشاء جيش أوروبى موحد ليس جديدا، والرئيس ماكرون كان مدعوما من مؤسسات أمريكية، وأمام تراجع شعبية النخبة التقليدية، جاء إيمانويل ماكرون من خلف الصفوف بحزبه الجديد إلى الأمام، ليحظى بدعم باقى الأحزاب المتراجعة، ويكتسح الجولة الثانية من الانتخابات أمام لوبان، وإذا ما اهتز حكم ماكرون فالبديل الأقرب هو الجبهة الوطنية لليمين المتطرف، وهو ما يمكن أن يغير وجه أوروبا، وما لا تتمناه الولاياتالمتحدة بحزبيها الجمهورى أو الديمقراطي. لقد كان صعود وانتخاب ماكرون نتيجة أزمة سياسية واقتصادية حادة، ولم يفز ماكرون بفضل أصوات حزبه إلى الأمام الذى لم يكن عمره يتجاوز العام الواحد، بل فاز نتيجة الاتفاق بين أحزاب الوسط واليسار على دعم ماكرون الذى كان يحظى بفرص أفضل، بوصفه وجها جديدا، ولديه خبرة كبيرة فى الاقتصاد، واعتمدت حملته الانتخابية على أنه المنقذ من الأزمة الاقتصادية المزمنة، ورفع ماكرون شعار الإصلاح الجذرى لإنعاش الاقتصاد من خلال ما سماه الصفقات الكبيرة، معلنا خطة استثمارية عامة بقيمة 50 مليار يورو لإيجاد نموذج جديد للنمو وإنعاش الاقتصاد، فانتظرت الجماهير أن يشهد الاقتصاد الفرنسى تحسنا ملموسا على أيدى المنقذ ماكرون، لكن النتائج جاءت مخيبة للآمال، فقد حقق الناتج المحلى نموا لا يتجاوز2.%، وهو أقل من معدل النمو الضعيف فى عام 2017، والذى بلغ 7.%، وتعززت الصدمة بأرقام تراجع النمو فى الإنفاق الاستهلاكي، المحرك الرئيسى للنمو الاقتصادي، ليبلغ 1.% فقط، بينما كان متوقعا أن يرتفع إلى 6.%. يحمل الاقتصاد الفرنسى عبء دين عام ضخما يصل إلى 3.3 تريليون يورو، ويقترب من 100% من حجم الناتج المحلى الإجمالي، وهى منحنى خطير، خصوصا أن البنك المركزى الأوروبى قرر رفع نسبة الفائدة على القروض، وإذا وضعنا فى الاعتبار أن مستوى المعيشة فى كل من فرنساوألمانيا كان متقاربا ومرتفعا منذ 15 عاما، فإن مستوى المعيشة الآن فى ألمانيا يتفوق على فرنسا بخمس مرات، وكانت معدلات البطالة فى البلدين 8%، وتراجعت البطالة فى ألمانيا إلى 4%، بينما اقتربت فى فرنسا من 10%. برنامج ماكرون لتخطى هذه الأزمة الصعبة يعتمد على خفض الإنفاق العام بقيمة 60 مليار يورو خلال خمس سنوات، بسياسة تقشف مؤذية لقطاعات عريضة من الشعب الفرنسي، منها إلغاء 120 ألف وظيفة فى القطاع العام من خلال تشجيع التقاعد المبكر، وتعديل قانون العمل بما يسهل الفصل التعسفي، والاستعداد لاستقبال 200 ألف مهاجر مستعدين للحصول على أجور أقل من العمال والموظفين الفرنسيين، وفى مقابل ذلك يسعى لتخفيف حدة الأزمة الاجتماعية بخفض ضريبة الإسكان على الفقراء وتحسين الرعاية الصحية والاجتماعية وإعانات البطالة. ورغم إعلان ماكرون خفض العبء الضريبى على الأسر والشركات بنحو 25 مليار يورو فى العام المقبل، فإنه لم يجد صدى لتلك الوعود، ويوصف بأنه رئيس الأغنياء، خاصة بعد قراره خفض الضرائب على الأغنياء والشركات فى العام الأول لحكمه، بينما رفع ضرائب الضمان الاجتماعى التى أضرت بشكل مباشر بأصحاب المعاشات. يعتقد ماكرون أن الاقتصاد الفرنسى لن يتمكن من المنافسة فى ساحة العولمة الواسعة فى ظل الأجور العالية للعامل الفرنسى الذى يحصل على حد أدنى مرتفع للأجور ينص عليه القانون، وارتفاع الضرائب على الشركات التى تسدد نحو ثلث أرباحها، وأن عليه أن يقلص من أجور العمال ويخفض الضرائب على الشركات، لتتمكن السلع الفرنسية من الصمود أمام المنافسة القوية فى سوق العولمة، ولهذا يتمسك ببرنامجه الاقتصادى الذى لا يحظى بالتأييد فى الشارع الفرنسى المشحون بالغضب واليأس، ومن شأن تنفيذ هذه السياسات فإن الغليان ستزداد وتيرته، وترتفع حدة الغضب لمصلحة اليمين الشعبوى الذى لا يريد البقاء فى الاتحاد الأوروبي، ولا تابعا للسياسات الأمريكية، أو اليسار الراديكالى المعادى لسياسة الرأسمالية الأكثر توحشا فى ظل العولمة. ولهذا فمن المتوقع أن تستمر موجة الاحتجاجات ضد سياسة ماكرون مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وسيبقى مصيره مرهونا بنتيجة السباق بين قدرته على الخروج من الأزمة الاقتصادية والغضب الشعبى المتنامى من تردى ظروفه المعيشية. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد