أكتب من الجزائر حيث تم الإعلان مساء الخميس الماضى عن كشف علمى غاية فى الأهمية يثبت أن الإنسان عاش على أرض الجزائر قبل مليونين وأربعمائة ألف عام، ويكتسب هذا الكشف أهميته من أن أقدم تاريخ تم تسجيله للإنسان حتى الآن هو ما كان قد تم كشفه فى موقع قونا بإثيوبيا والذى يقدر بمليونين وستمائة ألف سنة، وهو ما يعتبر بشهادة علماء العالم أقدم تاريخ تم رصده لتواجد الإنسان فى أى بقعة من بقاع الأرض. وقد أعلن عن هذا الاكتشاف الذى قامت به بعثة دولية فى الجزائر بالتزامن مع إعلانه فى الولاياتالمتحدة عن طريق مجلة Science الشهيرة والتى تعتبر مع مجلة Nature من أكبر المجلات العلمية المحكمة فى العالم، وما أن أعلن الخبر حتى تناقلته وكالات الأنباء وقنوات التليفزيون الدولية ووجدته فى اليوم التالى منشورا فى الفيجارو فى فرنسا وأتلانتك فى الولاياتالمتحدة والجارديان فى بريطانيا و إلباييس فى أسبانيا ولاستامبا فى إيطاليا، ومن المؤكد فى عشرات الصحف الأخرى التى لم يتسنى لى الإطلاع عليها، وقد بحثت على الانترنت عما يمكن أن يكون قد نشر فى صحفنا عن هذا الكشف العلمى الذى كانت له أصداء فى جميع أنحاء العالم فلم أجد شيئا، فقد كان الإعلام المصرى مشغولا بما إذا كان توحيد الميراث بين الذكر والأنثى حلالا أو حراما. ولقد دعانى الصديق العزيز عز الدين ميهوبى وزير ثقافة الجزائر إلى الحفل الذى أقامه بوزارة الثقافة لتكريم العلماء أصحاب هذا الاكتشاف، وحضره الدكتور طاهر حجار وزير التعليم العالى والبحث العلمى (وهو بالمناسبة شقيق عبد القادر حجار الذى كان سفيرا للجزائر فى مصر)، وقد اقتصر هذا الاحتفال العلمى على الكلمات الرسمية وتكريم العلماء أصحاب الاكتشاف، والذين دعانى الوزير لمشاركته فى تقديم شهادات التقدير لهم، ثم استمعنا جميعا الى المحاضرة التى ألقاها رئيس فريق البحث العالم الدكتور محمد سحنون، وهناك بالعلماء القادمين من فرنسا وأوستراليا وأسبانيا والذين عملوا مع زملائهم بالمركز الوطنى الجزائرى للبحوث فى عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان. وقد عرض الدكتور سحنونى فى محاضرته صور الحفريات التى تم اكتشافها، وهى عبارة عن أدوات حجرية تم صقلها بعناية، وبقايا عظام لحيوانات تلك العصور تحمل آثار جزارة يعود تاريخها إلى مليونين وأربعمائة ألف سنة، ومثل هذه الأدوات لا يمكن أن يكون قد صقلها مخلوق آخر غير الإنسان، ولابد أنه استخدمها فى صيد وذبح وتقطيع الحيوانات حسبما تثبت علامات الجزارة التى تحملها العظام المكتشفة والتى وجدت بموقع الحفريات، وهو منطقة بوشريط بولاية سطيف فى شمال شرق الجزائر. وقد أخبرنى محمد سحنونى بأن هذا الكشف العلمى الهام يجيء نتاجا لعمل استمر عشرين عاما حيث بدأت الحفريات عام 1998، لكنه يؤكد أن التنقيب عن تلك الحفريات لم يكن من الأمور المستعصية، وأن الصعوبة كلها كانت فى التجارب المضنية التى خضعت لها الأدوات المكتشفة والعظام للتأكد من تاريخها، وقد أثبتت التجارب المتعددة التى أجريت عليها فى أسبانيا وأوستراليا وفرنسا أن تاريخها يعود إلى مليونين وأربعمائة عام، وهذا هو ثانى أقدم تاريخ لوجود الإنسان على الأرض بعد موقع قونا فى إثيوبيا. وقد كانت النظرية العلمية السائدة حتى الآن تشير إلى أن الإنسان نشأ فى إثيوبيا بشرق أفريقيا ثم انتشر منها إلى بقية أنحاء القارة السوداء ومنها إلى بقية بقاع الأرض، لكن الفارق الطفيف نسبيا بين الاكتشافين الإثيوبى والجزائرى يطرح فرضية وجود أصول متعددة لبداية الحضارة الإنسانية تعتمد على التواجد المتوازى للإنسان فى أكثر من موقع فى شرق وشمال أفريقيا فى نفس الوقت. من هنا تأتى أهمية هذا الاكتشاف الذى لا يهم الجزائر وحدها وانما يهم الإنسانية جمعاء، إذ أنه - حسبما نشرت مجلة Science الأمريكية - سيؤثر بالضرورة على النظريات السائدة والمتعلقة بنشأة الإنسان وتطوره، فقد تطورت تلك النظريات بدرجة كبيرة فى السنوات الأخيرة، خاصة بعد أن سادت فى الربع الأخير من القرن العشرين النظرية المعروفة باسم Out of Africa أو خرج من أفريقيا التى أكدت بعد غموض دام قرون أن منشأ الانسان كان فى أفريقيا التى خرج منها إلى بقية أنحاء العالم، واليوم تأتى اكتشافات الجزائر لتثبت أن الإنسان انتشر فى أكثر من موقع فى أفريقيا قبل أن تحمله موجات الهجرة قبل حوالى 600 أو 700 ألف سنة إلى آسيا وأوروبا، وقد تم منذ سنوات اكتشاف فك لإنسان فى الأراض الفلسطينية الداخلة الآن ضمن دولة إسرائيل الحديثة، يرجح أن يعود تاريخه الى ما بين 177 ألف سنة إلى 194 ألف سنة. وأسأل الدكتور سحنونى: ألا يمكن أن يكون إنسان الجزائر فى شمال أفريقيا قد هاجر من اثيوبيا شرقا إلى الجزائر فى شمال غرب القارة ؟ فيقول: نظريا ممكن، لكن علينا أن نتذكر أن الإنسان فى ذلك الوقت لم يكن يهاجر بالسهولة التى نعرفها اليوم، فقد كان يخاف الوحوش ويخاف الطبيعة، ولم يكن يملك أى وسائل انتقال إلا قدميه ليحملانه عبر الأنهار وفوق الجبال فى حرارة الصيف الحارقة وبرودة الشتاء القارصة، لذلك فأغلب الظن أن مهد الحضارة الإنسانية لم يكن حكرا على شرق أفريقيا وحدها حسبما كنا نتصور، وانما كان منتشرا فى أكثر من موقع فى هذه القارة الأم التى تثبت اكتشافات منطقة بوشريط الأخيرة أن أفريقيا هى بالفعل منشأ الحضارة الانسانية فى أكثر من موقع بها. لمزيد من مقالات محمد سلماوى