حديقة مانجو على مساحة نصف فدان كانت تفصل بين منزل ياسين، بطل رواية حديقة المانجو، ومدرسته الابتدائية ولكنها تحولت إلى خرابة فى مطلع السبعينيات من القرن الماضى بعد أن تم قطع المياه عن أشجارها حتى جفت، فصار قطعها أمرا لا مناص منه. هذه الواقعة رغم بساطتها تلخص واقعا قضى على الكثير من مظاهر الجمال فى شوارعنا بفعل توليفة قميئة من الإهمال والطمع وعدم التخطيط واعتياد القبح. وعبر صفحات الرواية ومن خلال تجارب ياسين فى الحياة، يرصد الكاتب الصحفى محمد على كثيرا من التحولات المشابهة ويصحبك فى رحلة فى أحياء وشوارع مختلفة من مصر القديمة إلى وسط البلد إلى لارنكا فى قبرص لتكتشف أن المكان شخصية من بين شخوص الرواية تؤثر وتتأثر و تتفاعل مع الزمن، وتترك بصمتها فى النفوس. وبجانب الخلفيات التاريخية التى يضفرها محمد على فى وصفه للمكان، تجد رسما دقيقا لعادات وتقاليد الطبقة الوسطى فى فترة السبعينيات والثمانينيات, فى بلاد المانجو كما يصفها المؤلف, وملامسة حقيقية للهموم والصعوبات التى يواجهها ابناؤها فى أغلب مناحى الحياة. على سبيل المثال يشخص المؤلف أسباب تدهور التعليم فى المراحل المختلفة بأسلوب مدهش وسلس مزج بين الحقيقة والخيال. فياسين التلميذ يعانى من حالة تشبه التخلف العقلى المحدود, حيث لا يجد تفسيرا لتسمية علم الجبر بهذا الاسم أو ماهو التفاضل وما علاقته بشقيقه التكامل؟ ولماذا يدرس الجمعيات التعاونية؟ ولم تتوقف استفسارات ياسين عن فائدة ما يدرسه مع انتهاء مراحل التعليم فى المدرسة بل امتدت للجامعة، حيث تساءل لماذا يدرس شكسبير وتى إس اليوت وغيرهما فى حين لا يتلقى شينا عن أمور بدت له ضرورية مثل قيادة السيارات وإدارة ميزانية شخصية وكيفية التعامل مع المواقف الصعبة؟ وبحث ياسين عن مدخل مقنع للعلوم يلاغى عقله فلم يجده وبالتالى اتجه إلى حيلة التكرار يعلم الحمار, ذلك الأسلوب الدراسى المعتمد فى بلاد المانجو منذ مئات السنين! وبعد أعوام طويلة يفسر طبيب صديق لياسين أسباب حالة الاغتراب التى عانى منها فى أثناء التعليم ألا وهى «الغشاوة المخية»!! شبكة تشبه الشبورة تظلل المخ دون أن تخنقه حيث إن بها ثقوبا دقيقة تسمح بمرور المدركات بصعوبة وهنا ينجح أسلوب التكرار والاستذكار بالصوت العالى فى إيقاظ المدركات التى تعلق بخيوط الشبكة. ووفقا لتفسير ذلك الطبيب الخيالى تجد ان معظم أمخاخ التلاميذ والطلبة فى بلاد المانجو تحيط بها غشاوة وان كنت اعتقد أنها تحولت مع الأيام وبفعل المناهج المبتكرة إلى شبكة معتمة.تستعرض رواية حديقة المانجو أيضا عددا من المطبات فى العلاقة بين الرجل والمرأة وأمور الزواج والطلاق التى تحكمها حزمة من العادات والمفاهيم البائدة ويسيطر على بعضها منطق المكسب والخسارة. وخلال مراحل حياته المختلفة يرتبط ياسين بنماذج متباينة من النساء، بدءا من جدته الكردية قوية الشخصية ومنبع الحكايات مرورا بحبيبته الأولى الانتهازية وصديقته القبرصية المفعمة بالحيوية انتهاء بزوجتيه الخارقتين للمألوف،مما دفعه إلى معاهدة نفسه على مقاطعة نون النسوة للأبد. وفى النهاية اذا كانت أشجار المانجو قد اجتثت من مكانها فإن ألوانها الجذابة ورائحتها المميزة ما زالت باقية بين صفحات الرواية. لمزيد من مقالات هناء دكرورى