بادئ ذى بدء،فإنه يجب التسليم بأنه لا يملك أحد من البشر أن يحكم على الآخر بالشرع دون وحى من السماء؛ لأنه اختصاص لله عز وجل، وإنما الجائز لكل أحد هو الحكم بالفقه الذى يعبر عن قناعته الشخصية، ولا يعبر عن مراد الله؛ لما أخرجه مسلم من حديث بريدة، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول لأمير جيشه: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك – أى أنت - فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا». ومن ثم فإنه لا يملك أحد - فردا أو شركة أو دولة أو غيرها – أن يزعم تطبيق شرع الله حقيقة وإن كان يرى نفسه مستمسكا بالكتاب والسنة؛ فهو فى واقع الأمر يطبق فقهه للشرع وفهمه أو فهم غيره للكتاب والسنة، ويعيش فى وهم أنه يطبق الشرع المعصوم. كيف وأن الله عز وجل سيحاسب كل البشر يوم القيامة، ومنهم هذا الواهم بعد إيمانه به سبحانه، عن اجتهاده الفقهى أو اختياره الذى طبقه وامتثل به فإن كان صوابا فله أجران وإن كان خطئا فله أجر، كما ورد ذلك فى الصحيحين من حديث عمرو بن العاص. مما يترتب عليه أن نصوب اعتقادنا فى تطبيق أحكام المواريث الحالية بأنها فقهية وليست شرعية، حتى وإن اتبعت قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين»؛ لأنها اختارت هذه القاعدة وتركت قواعد أخرى مثل قاعدة «من بعد وصية يوصى بها أو دين» (النساء: 11)، وقاعدة «وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه» (النساء: 8)، وقاعدة «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله» (الأنفال: 75). وفى جميع الأحوال فإن أوجه التطبيق مختلفة ومتفاوتة، وهذا ما يفتح باب الاجتهاد بصفة دائمة، والضامن فى عدالته هو الحكم الشعبى بالاختيار الحر؛ لأن الفتوى لا تلزم إلا صاحبها
وقد توجهت دولة تونس فى الأيام القليلة الماضية إلى تقديم مشروع قانون بموجبه تحصل البنت على حظ من التركة – وليس من الميراث - يساوى ما يأخذه أخوها، بشرط عدم اعتراض المورث قبل موته ومطالبته فى محرر رسمى بقاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين»، فإذا لم يطلب ذلك أنفذ القانون المقترح، دون المساس بنصوص القرآن والسنة التى تعالج الميراث فى التركة، وتترك حق الوصية فى التركة للوارث، ويكون هذا الحكم القانونى منسوبا لاجتهاد التونسيين فى هذا الجيل محتسبين به وجه الله فى ترضية المرأة وإنصافها أمام نساء العالم المعاصر، دون تحميل الأجيال السابقة أو اللاحقة مسؤلية اجتهادهم، ودون المتاجرة الدينية بوصفه أنه شرعى أو إسلامي، وإنما بوصفه اجتهادا فقهيا تونسيا يراعى مقاصد التراحم ومتغيرات معانى العدالة ومشاركة المرأة الرجل فى تحمل إنشاء بيت الزوجية وتكاليف أعباء المعيشة؛ خاصة أن الله تعالى قد جعل الميراث حقًا وليس واجبًا، والحق يجوز التنازل عنه والتراضى على خلافه، بخلاف الواجب كالصلاة والصيام فإنه ليس لإرادة البشر فيها تشريع إلا الامتثال أو العصيان. وقد أحدث هذا الاجتهاد التونسى صخبا عارما فى أوساط المسلمين غير المعتادين لتجديد الفقه منذ قرون مضت، بقيادة المتطوعين لزعامات الفتن الدينية، مع أنهم يعلمون أن تركيا عاصمة الخلافة العثمانية التى يتباكون على اسمها اليوم قد جددت فقهها وأصدرت قانونها بتسوية البنات بالبنين فى الميراث من سنوات دون صراخ أو عويل، مما يستوجب على الحكماء تفويت الفرصة عليهم دون تمكينهم من إيقاف مسيرة التجديد الحضارى وإبقاء باب الاجتهار مغلقا؛ استنقاذا لشعوبنا العربية من وصف كونها من دول العالم الثالث إلى أعلى مراتب الدول الأولى، ولن يكون هذا إلا بوعى الشعب لأنه الوحيد القادر على مواجهة من يختطف سيادته ولو باسم الدين، وما ثورة 30 يونيو 2013 ببعيد، التى أسقط فيها الشعب المصرى من توهم مكايدته بالدين. إلا أن أذنابهم اليوم يريدون إشعالها فتنة باسم حماية شرع الله لاستدعاء عاطفة الشعب الدينية وتوريطه فى حرب أهلية لمجرد الحديث عن قانون الإرث فى تونس، مع عدم علاقة المصريين به وأنهم لم يطرحوه مشروعا للدراسة أصلا؛ لذلك وجدت من الواجب بيان التأصيل الفقهى للاجتهاد التونسى فى الميراث؛ لتحصين الشعب بأوجهه الفقهية حتى يتمكن من مواجهة الشبهات التى تحول دون التجديد المواكب للواقع من غير المساس بالنصوص المقدسة، لإعذار التونسيين فى اجتهادهم، وإشاعة الوعى بفقه الميراث والوصية عند المصريين فيتخذون ما يرونه مناسبا لحضارتهم دون إرهاب فكري، ولعل نجاح التجربة التونسية إن تمت، ومن قبلها التجربة التركية، فى إعطاء البنت مثل أخيها من التركة وليس فى الميراث يسرى يوما فى مصر؛ لأن النجاح يفرض نفسه وينتشر بقوته الذاتية إن الصراع الفكرى فى العالم المتحضر اليوم لم يعد صراعا بين الظلم والعدل، ولا بين الحق والباطل، كما كان الأمر قديما، وإنما ارتقى الصراع فصار بين العدل والفضل، أو بين الحسن والأحسن . وقد أشار القرآن إلى ذلك فى قوله سبحانه: «واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم» (الزمر: 55)، مما يدل على أن فقه الدين المتجدد قادر على إيجاد مخرج مشروع يعطى البنت حظا زائدا فى التركة تكمل به نصيبها ليصير مثل نصيب أخيها فى الظاهر دون المساس بأنصبة الفرائض المقررة فى كتاب الله نصا. هذا، ولا يعنى بياننا لأوجه التأصيل الفقهى لمشروع القانون التونسى اختيارنا له، فعقيدتى هى أن مهمة الخطاب الدينى هى التذكير والبيان والشرح والتوضيح للرؤى الفقهية على مسئولية أصحابها المجتهدين؛ لتنوير الرأى العام بالآراء المختلفة، التى يتصف كل منها بمقولة الإمام الشافعي: «صواب يحتمل الخطأ، أو خطأ يحتمل الصواب»، وإعطاء السيادة فى القبول أو الرفض لكل إنسان مكلف؛ كما قال تعالى: «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه» (الإسراء:13)، والتنبيه على ما انتهى إليه القانون من اختيار لأنه إجماع العصر الذى لا يجوز الخروج عنه وإن جاز المطالبة بتعديله لما هو أحسن وفقا للقنوات المتبعة. وسنذكر تأصيلين فقهيين لمشروع القانون التونسى فى الميراث، ثم نبين المخرج من نزاعات التركة باختصار، فيما يلي: التأصيل الفقهى الأول: هو التراحم والتسامح والتكافل بين أبناء الشعب الواحد الذين توافقوا بتراضيهم الحر على إكرام البنت بإعطائها حظا زائدا من نصيب أخيها المفروض له إرثا فى كتاب الله، عن طيب نفس منه، تكمل به نصيبها من الإرث المفروض لها بناء على قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» فيتساويان تراحما أو تكافلا؛ كما أخرج البخارى عن جابر بن عبد الله، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»، ولأن الميراث حق يجوز التنازل عنه كليًا أو جزئيا وليس واجبًا يأثم تاركه كالصلاة والصيام. هذا التراحم يتفق مع الأدلة الشرعية فى صلة الأرحام والتوصية بالنساء خيرًا؛ خاصة أنها صارت شريكة الرجل فى الولايات العامة. ومن حق ولى الأمر الذى هو الشعب فى العصر الحاضر بلجانه أومجالسه التشريعية، وليس خصوص الرئيس أو الحاكم كما كان الاعتقاد قديما، أن يلزم نفسه بقانون لتفعيل هذا التراحم فترتقى الحضارة وتنتقل فى الميراث من عدل إلى فضل، ومن حسن إلى أحسن. والمثال المعاصر الواضح فى ذلك هو فرض «الضريبة» لتتمكن الدولة من الوفاء بخدماتها الحضارية للشعب، فمع أن الضريبة فى الأصل نوع من التبرع أو التكافل إلا أن الحاجة إليها نقلتها من التطوع إلى الإلزام، ومثلها كثير فى حياتنا كالتأمين الإجبارى والتجنيد الإجبارى. والمعروف أن القانون ليس قرآنًا مقدسًا مخلدًا، ولذلك كان من حق كل جيل من أجيال الشعب أن يعمل على تجديده وتحديثه إلى مايراه الأحسن دائمًا؛ لأن الأوضاع دائمة التغيير مما يجعل الحاجة إلى التطوير مستمرة على مر العصور، ولا يتحقق ذلك إلا بفقه دائم التجدد للدين. ولا يقال إن التسامح فى الحقوق أو التنازل عنها لا يكون إلا بعد ثبوتها، فهذا مما يتسع فيه الخلاف الفقهى بما يجيز التنازل عن الحق المحتمل. وخلاصة هذا التأصيل: أن قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» هى الأصل فى الميراث، ولكن انضاف إليها التزام الابن لأخته أن يكفلها عن طيب نفس من نصيبه ما يساويها به، وقد وثق هو وغيره هذا الالتزام بالقانون، أو ألزمه القانون به كما ألزم دافعى الضرائب والتأمينات، ولذلك قلنا إن مشروع القانون لم يتدخل فى إعادة تقدير أنصبة فرائض الميراث الثابتة فى كتاب الله، وإنما تدخل فى حظوظ البنات مع أشقائهن فى التركة وليس فى فرائض الميراث، وهناك فرق بين مصطلح «التركة» وبين مصطلح «الميراث» لمن يفقه. إلا أن الصورة النهائية فى تقسيم التركة تظهر فيها البنت مثل أخيها فى النصيب، لكن بالتكييف سالف الذكر. التأصيل الفقهى الثاني: هو تفعيل عقد الوصية الذى أهمله الناس بسبب تهميش الخطاب الدينى له، وإيهامهم بأن الآيات القرآنية فى تقسيم التركة خاصة بالميراث، مع أنها تضمنت تعليق تقسيم التركة بأنصبتها المفروضة والمقررة والثابتة فى القرآن قطعى الثبوت والمحفوظ بحفظ الله دون فضل لأحد كما قال تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر:9)، تعليق تلك الأنصبة بقوله تعالى: «من بعد وصية يوصى بها أو دين» (النساء:11)، وقوله تعالى: «من بعد وصية يوصين بها أو دين .. من بعد وصية توصون بها أو دين .. من بعد وصية يوصى بها أو دين» (النساء:12)... هكذا أربع مرات فى آيتين متتاليتين، فلا ميراث إلا بعد إنفاذ الوصايا وتسديد الديون من التركة. إذن عندما يقول تعالى بعد ذكر آيات الميراث: «تلك حدود الله» (النساء: 13) علينا أن نرجع اسم الإشارة «تلك» إلى كل من الميراث والوصية والدين، وليس فقط الميراث. والمعروف أن الوصية تكون فى حدود ثلث التركة، وهى واجبة عند بعض أهل العلم كالإمام ابن شهاب الزهرى (ت124ه)، ولظاهر قوله تعالى: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين» (البقرة:180). كما أن الوصية تصح للوارث عند الإمامية وأخذ به القانون المصرى سنة 1946م حتى الآن، وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية سنة 2015م بيانًا بشأن تأكيد شرعية العمل بالوصية للوارث وفقًا للقانون المصري. وحتى عند جمهور الفقهاء الذين يرون عدم صحة الوصية للوارث؛ عملًا بحديث أبى أمامة عند أحمد وأصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا وصية لوارث» إلا أن جمهور الفقهاء غير الظاهرية فى الجملة قالوا إن الوصية تصح للوارث وبأكثر من الثلث بشرط أن يجيزها الورثة؛ عملًا بحديث ابن عباس فى سنن الدارقطني، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة»، ولأن منع الوصية بعض الورثة أو الزيادة فيها عن الثلث إنما كان لحق الورثة فلو أجازوها فإنهم يكونون قد تصرفوا فى حقهم. فالفتوى عند جمهور الفقهاء التى تمنع الوصية للوارث ليست مطلقة، وإنما هى مقيدة برفض سائر الورثة، فإن أجازوها صحت وكانت بحكم التعبير الشائع شرعية. ولا يشترط عند المالكية أن تكون إجازة الورثة الوصية بعد موت الموصي، بل يجوز الحصول على موافقة الورثة على الوصية فى حياة الموصى وتكون ملزمة لهم بعد موته. وبهذا نعلم أن أحكام الوصية إنسانية ومرجعها إلى إرادات البشر، وفيها من مرونة التصرف فى حدود ثلث التركة ما نرى فيه حضارتنا ويدفع عنا مزايدة المتباهين فى الدول الموصوفة بغير الإسلامية أنهم يعطون البنت مثل أخيها فى التركة بزعم العدل والمساواة، ويحملنا كلفة التبرير من تحمل الابن مسؤليات مالية أكثر من البنت، أو أن المرأة قد ترث فى صور أخرى أكثر من الرجل، أو غير ذلك من التعليلات، وذلك دون المساس بأنصبة الميراث المقررة فى كتاب الله تعالى والتى لا تقبل الخوض والعجيب أن جيل فقهاء مصر العظيم فى منتصف القرن العشرين قد استطاع تفعيل عقد الوصية الشرعى المنصوص عليه فى آيات المواريث لحل مشكلة اجتماعية قاسية، وهى حرمان الأحفاد من الميراث لوجود عاصب أعلى منهم فى الدرجة، فابن الابن محجوب بالابن، مع أن ظاهر الحال هو احتياج الأحفاد للمال أكثر من الأبناء غالبًا، فكان اجتهادهم المشكور بإعطاء الأحفاد مثل ما كان يستحقه أبوهم - أو أمهم – لو كان حيًا بشرط ألا يزيد على الثلث إلا بإذن الورثة، وأن لا يكون الجد قد أعطاهم من طريق تصرف آخر مثل ما كان أبوهم – أو أمهم – يستحقه لو كان حيًا. وصدر بهذه الفتوى الحضارية والإنسانية نص قانونى سنة 1946م وهو المعروف بمصطلح «الوصية الواجبة»، وجاء فى المذكرة الإيضاحية أنها لا تمس أحكام الميراث وإنما هى متعلقة بعقد الوصية، وإن كان يبدو فى الظاهر أنهم وارثون، لكنهم فى الحقيقة حاصلون على حظ بالوصية التى رأى المشرع القانونى (ولى الأمر) حقه فى اختيار فتوى وجوب الوصية وليس مسنونيتها عملًا بقول بعض أهل العلم وظاهر الأمر فى الآية: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية» (البقرة:180)، والآية الكريمة وإن أطلقت صفة القرابة إلا أنه يحق لولى الأمر اختصاص بعضهم ممن يراهم الأولى استحقاقا للرعاية والرأفة. ومن الغرائب أن هذا المقصد النبيل لدعم الأحفاد غير الوارثين، وهذا التخريج الفقهى الصحيح للوصية الواجبة قوبل من المندهشين والأوصياء بغضب ورفض عارم، وبعد سنوات وظهور الأثر الإيجابى لها فى المجتمع أدرك الشعب إنسانيتها وعدم تعارضها مع أحكام الميراث لتعلقها بالوصية التى هى سابقة فى الإنفاذ عن الميراث، فانتشرت فى كثير من البلاد العربية وصارت علامة للتجديد الفقهى المصرى العظيم. كان المنطق الطبيعى بانفراجة تفعيل عقد الوصية بما ذكرنا من «الوصية الواجبة» أن ينطلق قطار التجديد بحل كل مشكلة فى الميراث بها، وهذه مسئولية الباحثين فى الماجستير والدكتوراة وأبحاث الترقية فى جامعة الأزهر المستمرة حتى الآن بفضل الله تعالى. لكن الذى سبق إلى ذلك فقهاء تونس الذين رأوا حضارة العالم التى أنصفت المرأة فى التعليم ووظائف الولايات العامة وتسوية البنات بالبنين فى حظوظهم من تركة والديهم، فظهرت المرأة المسلمة أمام مثيلاتها فى البلاد التى لا يدين أهلها بالإسلام والموصوفة بالحضارية - وليست البلاد الكهنوتية – كأنها منقوصة الحظ، ولم نقدم لها فى خطابنا الدينى إلا التبريرات والتعليلات التى لا تغنى من جوع، فابتدر فقهاء تونس الانتفاع بعقد الوصية الشرعى والسابق لحق الميراث بحسب نص كتاب الله، وحق ولى الأمر (الشعب بلجانه ومجالسه التشريعية) فى تخصيص المباح بما يرفع شأن المرأة المسلمة ولا ينقصها عن مثيلاتها من النساء غير المسلمات اللاتى ترفق بهن الحضارة الإنسانية غير المستندة إلى مرجعية فقهية دينية، وانتفع فقهاء تونس بسعة الفقه وعمقه عند المسلمين والذى ليس له مثيل فى التاريخ، فتمكنوا من الاجتهاد وفقه الدين ما قدموه منسوبا لأنفسهم لإكرام المرأة المسلمة بحظ زائد من الوصية حتى تظهر كأنها متساوية مع أخيها دون المساس بقدسية القرآن وثوابت فرائضه (أنصبة المواريث) الخالدة، مما يؤكد أن المشكلة عندنا ليست فى نصوص الدين وإنما المشكلة فى فقه الدين وتطبيقات عقد الوصية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث معاوية: «من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين». وخلاصة هذا التأصيل: أن قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» هى الأصل، ويضاف إليها حصة من ثلث التركة (الوصية)تكمل بها البت إرثها ليتساوى فى الصورة مع نصيب أخيها، ولهذا قلنا إن مشروع القانون لا يورث البنت كالابن، وإنما يقرر للبنت فى التركة كأخيها، والمعروف أن مصطلح «التركة» يختلف عن مصطلح «الإرث»، فالإرث أنصبة مفروضة فى التركة بعد استقطاع الوصية والدين، أما التركة فهى رأسمالها قبل الوصية والدين، والقانون لم يتعرض للأنصبة المفروضة فى كتاب الله، وإنما أكرم البنت من حق الوصية فى التركة. وأما المخرج من مشكلة أو فتنة اجتهاد فقهاء تونس فى قانون الميراث: فهو إخبار المسلمين بحقهم الفقهى – أو بالتعبير الشائع بحقهم الشرعى – فى تقسيم أموالهم فى حياتهم بما يحقق العدل والرحمة بحسب السلطة التقديرية المؤتمن عليها كل إنسان فى ماله وبما لا يتعارض مع احتياجاته الخاصة فى مستقبل حياته إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا، ولن يعدم من أساليب التأمين والحفظ لحقه الشخصى وحقوق أولاده وذويه؛ عملًا بما أخرجه البخارى عن عبد الله بن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله»؟ قالوا: يارسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: «فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر»، وتبقى إشكالية ضعف فقه الدين فى مواجهة التسلط بالدين.