تناقضات عديدة تبدو في تصريحات وأحاديث بعض المسئولين والمهتمين بالشأن العام والذين يضعون أنفسهم علي منابر التوجيه والارشاد.. دون ان يفطن أحدهم إلي ما يحدثه من تأثير سلبي في البنية البشرية. بل وفي البنية الاجتماعية والمجتمعية وبالتالي في الوطن وحركته. ومن هذا مثلا.. انه لا توجد لدينا كوادر مؤهلة فنيا من العمالة علي كافة المستويات بدءا من العامل الي الفني الي التخصصي وهكذا.. مما يضطر معه رجال الأعمال الذين يمتلكون مشروعات الي استقدام هذه العمالة من دول أجنبية.. وتلك مقولة وان كانت متسقة نظريا ولغويا الا انها مغلوطة عمليا ومنطقيا.. فان الدول المحترمة التي تطبق نظام الاقتصاد الحر وتترك يد القطاع الخاص طليقة.. وتحرك فيها هذا القطاع تلقائيا لممارسة مسئولياته سواء الاجتماعية وهذه قضية مهمة لا نتعرض لها الآن أو..الأمور المتصلة مباشرة بعمله وفي مقدمتها توفير القوي البشرية المؤهلة لما يناسبه.. وهنا ينشئ مراكز تدريب ومدارس ومعاهد وكليات متطورة وحديثة والي أرقي المراحل.. لتخريج كوادر بشرية بأكثر مما يحتاج.. فلماذا لم يفعل القطاع الخاص هذا عندنا.. و.. ربما نستدرك للاعتراف بأن هناك من فعلها لكنا نتحدث إجمالا والا ما كانت تلك المقولة المشار اليها سائدة.. ونضيف ان هذا الذي نطالب به يعد بالمفهوم الاقتصادي مشروعا مربحا اذ يوفر العمالة المطلوبة كما يمكن تصدير الفائض.. وللاغراء المحرض نقول ان أمامه ثلاثة حلول: ان ينهض بهذا المشروع التعليمي' الاستثماري' بنفسه.. أو.. ان يشارك وزارتي التعليم في هذا..أو..ان يقيمه بالمنح المالية التي يتلقاها اتحاد الصناعات وجمعيات رجال الأعمال بهدف تحديث الصناعة وتنمية الانتاج..فان البشر ولا شك أول وأهم عناصر العملية الصناعية والانتاجية.. ونعود الي الأحاديث المتناقضة.. ومنها كمثال آخر ما يقال عن الغاء كليات الحقوق بعدم القبول فيها بدءا من العام القادم بدعوي عدم وجود فرص عمل لخريجيها.. وكذلك قرار الغاء الانتساب للجامعات.. علي أساس ان الأفضل هو الاتجاه الي التعليم المفتوح بمصروفات لا يقدر عليها الكثيرون.. أو هكذا قيل إلي التعليم الذي يتفق مع احتياجات سوق العمل! وهنا.. وقبل التعليق علي هذا.. أعيد تكرار مقولة يذكرها كثيرا نفس الذين يتحدثون بالمقولات السابقةوغيرهم وهي أننا قد دخلنا عصر ثورة المعلومات.. وصرنا في قلب عالم المعرفة. والسؤال الكاشف هنا هو: كيف نؤهل أنفسنا لهذا العصر المعلوماتي..المعرفي هل التأهيل والتجهيز يكون فقط بمعرفة كيف نستخدم الكمبيوتر.. ونتعامل مع شبكة المعلومات الدولية' النت' وما يتصل بها.. وهل نكون بارعين اذا دخلنا في هذه الصناعة لإنتاج بعض قليل مما تحتاجه السوق المحلية و..للتصدير! ان هذا مطلوب بالتأكيد.. ولكنه فقط يعني اننا قد دخلنا العصر..مستخدمين ننتائجه وليس مشتركين في مسيرته متفاعلين مع مقتضياته.. محققين التقدم لأنفسنا ومجتمعنا! فان هذا التعليم التقني والممارسة' الفنية'.. مختلف جذريا عن' المعرفة'.. فهي بحر واسع بلا قرار تمتد شطآنه بلا نهاية.. والذين شقوا هذا البحر منذ تاريخ بعيد وعلي مدي الزمن وصكوا فلسفة وأسس المعرفة كانوا يبدعون بقوة العقل الذي أعطي فكرا..زاد من بحر المعرفة عمقا واتساعا وعمل علي التمهيد وخلق المناخ للابداع في كل مجال و..لبزوغ عصور النهضة.. وهكذا حدث في مصر التي كانت لها حضارة فكر وبشر لا حجر.. وهكذا حدث في اوروبا التي استفادت من عصور نهضة سابقة في مناطق أخري بالذات مصر والشرق فصنعت نهضة فكرية وفنية ثم صناعية..بل وحتي التقدم التكنولوجي المبهر الآن في الولاياتالمتحدةالأمريكية فانه قد استفاد من الأرضية الحضارية والمناخ الفكري وهو ليس في أميركا لأنها بلا تاريخ وانما في أوروبا التي جاء منها الأجداد والآباء محملين بتراث مجتمعاتهم وبما نقلوه الي الأرض الجديدة.. وأكثر من ذلك فانهم استمروا علي صلة بأوطانهم' الحضارية' الأم..كما انهم وبعد قيام الدولة وحتي الآن.. يستقدمون' العقول الممتازة' من كل الدول لتوطينها وليكون انتاجها أمريكيا.. والمعني الذي أريد التأكيد عليه هو ان المعرفة أوسع من' التقنية' بل هي سابقة لها ومسببة لنشوئها وهي تتطلب التوسع في التعليم الذي يؤهل الخريجيين للانطلاق في مجالات متعددة.. واذا تناولنا تحديدا العلاقة بين التعليم وسوق العمل فان تلك كما نقول حقيقة غير انه ليس لها تفسير واحد وانما عدة تفسيرات تترجم الاستراتيجية العليا للدولة. ومثلا فانه عندما جاء محمد علي وبدأ في تحديث المجتمع فانه افتتح مدارس متنوعةوتدرج في أنواعها ومستوياتهاحسب احتياجات سوق العمل والبناء المجتمعي لأن هدفه من التعليم هو فقط تخريج كوادر تخدم وتعمل في المهن والوظائف المستجدة وليس لبناء مجتمع انساني سليم وقادر الي ان سافر' رفاعة رافع الطهطاوي' مصاحبا المبعوثين واعظا دينيامحافظا علي الأخلاق.. فاستوعب النهضة الفرنسية وهضمها وبعد ان أتقن اللغة ترجم كتبا فرنسية.. وكتب عن رحلته متجاوزا أدب الرحلات ومسلياتها الي التبشير فكان وبحق رائد التنوير لأنه تخطي التعليم التقني لتلبية احتياجات المجتمع الي البحث الفكري والعقلي.. ومعه ومن بعده تعمق تيار التنوير لتتسع دوائر التعليم المتنوع وليبرز المبدعون والقادة. ولم يكن هذا التقدم بفعل تعليم يلبي متطلبات سوق العمل فقط وانما ليؤسس قاعدة تبزغ فيها وتنبت عقول تري ابعد مما يري المنهمك المنغمس في صراع لقمة العيش. والأمثلة كثيرة ولكن فقط نشير الي طلعت حرب الذي لم يؤسس امبراطورية اقتصادية خاصة به تذهب ارباحها اليه.. وانما هي ملك للشعب.. تهتم بالمطبعة ودار النشر.. واستديو السينما وانتاج الأغنية.. كما تهتم بالغزل والنسيج والنقل البحري والجوي.. والمعني في ذلك ان المشروع كان تنمويا نهضويا يعني بالإنتاج الاقتصادي وفي ذات الوقت الانتاج المعرفي... وهذا وذاك.. يعتمد علي التعليم من أولي درجاته إلي آخرها.. علما بأن العلم بلا نهاية. لذلك.. فانه لا يجب وضع حدود للتعليم..أو..غلق أية أبواب مفتوحة أمامه..بل دعوا الزهور تتفتح .. واتركوا كما استقر التطور العالمي التعليم مستمرا متواصلا.. يصنع هواء نقيا.. ومناخا حيويا.. ترتقي فيه الأعمال.. وتنشط العقول.. وتبدع.. وتتوهج.. لبناء النهضة والتقدم اليوم.. وغدا.. وبعد الغد!