أنا سيدة فى الثانية والأربعين من عمرى، قاسيت ظروفا صعبة، وقتلتنى مرارة الانكسار لأسباب لا حصر لها، ووجدتنى بعد سنوات طويلة من العذاب قد وصلت إلى طريق مسدود، ولا أدرى كيف سأواصل حياتى بعد أن أنهكتنى المتاعب، وسيطر علىّ اليأس، وجفانى النوم، ودعنى أحدّثك عن حكايتى كما عشتها، إذ بدأت معاناتى قبل ولادتى، حيث انفصل والداى وأنا مازلت جنينا فى بطن أمى، وخرجت إلى الحياة فى بيت جدتى لأمى، وعشت معها بعد أن تزوجت والدتى بآخر، وتزوج أبى بأخرى، ولم أشعر بآلام هذا الانفصال فى ظل الهدوء والسكينة اللذين تمتعت بهما فى كنف جدتى، فالحق أنها كانت أحن علىّ من أبى وأمى، ولمّا كبرت وفهمت أشياء كثيرة فى الحياة عرفت أنهما ضحيا بى من أجل نفسيهما، ومرت الأيام، ووصلت إلى الصف الخامس الابتدائى، ثم حدث أول زلزال فى حياتى، إذ رحلت جدتى، ولم أجد بدا من أن أنتقل إلى بيت أمى، وتطلعت إلى حياة مستقرة معها لكن زوجها أذاقنى كل ألوان العذاب، فكان يحرمنى من الطعام، ويصرخ فى وجهى كلما رآنى، ولما التحقت بالمرحلة الإعدادية، لاحظت إحدى المعلمات انكسارى الدائم، فاقتربت منى واهتمت بى، وعرفت قصتى مع «اليتم» برغم أن والدىّ على قيد الحياة، ومن فرط حبى لها كنت أنتظر موعد المدرسة كل يوم لكى أراها وأتلمس العطف والحنان لديها، ومع أننى كنت أعيش مع إخوتى من أمى إلا أنهم لم يهتموا بى تأثرا بأبيهم الذى عاملنى بغلظة، وقد عرفوا أننى لست شقيقة لهم نظرا لاختلاف اسمى عنهم، والمؤسف أنى تلقيت المعاملة نفسها من جانب أبى وإخوتى منه، فساءت نفسيتى، وتخيلت أشياء لا وجود لها، وكنت كلما دخلت «الحمام» أسمع صوتا ينادينى، فأخرج منه هلعا، وأستغيث بأمى لكنها لم تكن تأبه لصراخى، ولا تستجيب لطلباتى مهما تكن بسيطة مثلما تستجيب كل الأمهات لبناتهن، وتطلعت إلى اليوم الذى أجد فيه من ينتشلنى من براثن الضياع وسط أناس لا يرحمون، والتحقت بمعهد عال، لكنى لم أكمل دراستى فيه لعدم وجود من يصرف علىّ، وقالت لى أمى وقتها «احمدى ربنا على كده، مالكيش أب يصرف عليكى»، فزاد همى، وتدهورت حالتى النفسية، وكثر سماعى الأصوات الغريبة، ومع التجاهل المستمر لى من أهلى، لجأت إلى «معالج» قيل لى إنه يستطيع إخراج الجان الذى يتلبسنى، ويتسبب لى فى الحالة التى أعانيها، واستمررت معه عدة جلسات عرف خلالها حكايتى كاملة، ولم تمر أسابيع على معرفتى به حتى فوجئت به يعرض علىّ الزواج، وهو أكبر منى بخمسة عشر عاما، وبالفعل ذهب إلى أبى وطلب يدى منه، فطرده من البيت قائلا: «اذهب إلى أمها»، وصدّقت زوجته على كلامه، وأضافت: أننى ليس لى عندهم أى شىء»، فعاد إلى أمى فقالت له: «إنها لا تملك ما تزوجنى به، وأن عليه الانتظار عامين على الأقل»، فعرض علىّ الزواج بعيدا عن أبى وأمى، فلم أتردد، وتزوجته، وعشت معه فى بيت العائلة، وأنجبنا بنتين، وكانت ظروفه المادية وقتها صعبة للغاية، ثم أنجبنا بنتا ثالثة، وكنت سعيدة معه برغم بساطة معيشتنا، وتعرَّف زوجى على تاجر كبير، وشاركه تجارته، وكسب أموالا كثيرة تسببت فى خراب بيتى، إذ ربطته علاقة عاطفية مع سيدة روسية تعمل فى «التدليك» بإحدى الصالات المسماة ب «الرياضية»، وتطورت الأمور بينهما إلى الزواج، وتركنا بلا سند ولا معين، ومرت شهور، وأصيبت ابنتى الصغرى بنزيف حاد فى المخ، وماتت بعد أسبوع واحد، وعرف زوجى بوفاتها، فانفعل علىّ وطلقنى فى نفس اليوم الذى رحلت فيه عن الحياة، وأخذ البنتين الأخريين، ولم أجد من يتصدى له، أو يحصل لى على حقوقى منه، وكل ما توصلت إليه بعد تفاوض مرير معه، أن يأخذ ذهبى كله مقابل أن يكتب تنازلا لى عن الشقة المؤجرة باسمه بالاتفاق مع صاحبها، وأن يتم تحرير عقد جديد باسمى، ورتب أموره، وفقا لحياته الجديدة، ورمانى عظما، ثم سافر إلى الخارج، وظللت وحيدة ست سنوات كاملة، دون أن يطرق بابى أحد لا من إخوتى لأبى، ولا من إخوتى لأمى، وكأنهم لا يعرفوننى، وقطعوا صلة الرحم مع أختهم، ثم تقدم لى رجل فى الستين من عمره، فوافقت عليه وتزوجته، وأنجبت منه طفلة مريضة بالقلب، وقاسيت الأمرين فى التنقل بها بين الأطباء، وانتهى بنا المطاف إلى تركيب جهاز لها فى القلب، ولم يطق زوجى الثانى الذى أوهمنى بالحب حياتى معه، فطلقنى وعاد إلى زوجته الأولى وأبنائه منها. وبلغ علمى أن أبى مات فجأة، فسعيت للحصول على ميراثى منه، وكانت الفجيعة الكبرى أنه سجّل كل ممتلكاته «بيعا وشراء» لأبنائه وحرمنى من كل شىء إلا جزءا من المعاش قدره ستمائة جنيه، هو نصيبى باعتبارى مطلقة، وبحثت عن وظيفة فلم أجد عملا يناسبنى، وقد تقدم لى أكثر من رجل للزواج منى لكنهم جميعا هاربون من زوجاتهم، ويسعى كل منهم للارتباط بى طلبا للسعادة حتى إشعار آخر!، ثم يتخلى عنى، كما فعل زوجاى السابقان، وفى الوقت نفسه يسعى صاحب العقار ل «تطفيشى» من الشقة التى أجّرتها بكل ما كان بحوزتى من ذهب.. لقد تعبت من الحياة، وأصابنى اليأس من كل شىء، وأشعر ب «مرارة الانكسار» التى لم تفارقنى لحظة واحدة منذ خروجى إلى الدنيا بلا أب ولا أم، فهل من سبيل إلى أن أعيش مستقرة فيما تبقى لى من عمر؟. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: الطلاق هو آفة عائلتكم، فلقد انفصل والداك قبل خروجك إلى الدنيا، ثم تزوجت بعيدا عنهما هربا من جحيم زوجة الأب، وزوج الأم، وبدعوى العلاج من السحر تعرّفت على من يكبرك بأكثر من خمسة عشر عاما، فاستغل وضعك الأسرى وتزوّجته بلا قيد ولا شرط، فى غياب تام لوالدك ووالدتك اللذين أعمتهما أهواؤهما الشخصية، فلم يباليا بك، وتركاك نهبا للأمراض النفسية، ثمّ أنجبت منه ثلاث بنات، وبعد عشر سنوات من الزواج تعرّف على سيدة أجنبية فى إحدى الصالات المسماة ب «الرياضية»، وتزوجها، وأخذ ابنتيكما الكبريين، بعد وفاة الصغرى، وسافروا إلى الخارج، فسنحت الفرصة لرجل استغلالى آخر للفوز بك إلى حين أن تلوح له فى الأفق فريسة جديدة، فبمجرد استنفاده الغرض منك وإنجابك طفلة مريضة بالقلب، طلّقك وعاد إلى زوجته الأولى!.. وهكذا تكرر الزواج والطلاق فى عائلتكم، حتى صار منهجا فى حياة أفرادها، دون اعتبار للأسرة والأبناء، وغاب عن الجميع أن الزواج سكن ومودة ورحمة، وأن الطلاق، إما أن يكون نعمة إذا استنفد الزوج كل الوسائل الممكنة للتغلب على خلافه مع زوجته بدءاً من الكلمة الطيبة، وانتهاءً بالاستعانة بأهل الخير، وبقيت جذور الخلاف عميقة.. وإما أن يصبح نقمة إذا كان تعسفا أو وقع لأسباب تافهة، وكان بإمكان الزوج وهو الذى بيده الطلاق أن يعالج النزاع بحكمة وصبر وموضوعية وخلق عال، فعندما يلجأ الزوج إلى الطلاق، فإنه لا يدرك الآثار السلبية المترتبة عليه من تشتت الأسرة وتشريد الأبناء، مما ينعكس سلبا على نفسيتهم حتى لو توافرت لهم متطلبات المعيشة، فمن غير اللائق أن يقاد الطفل جبرا إلى مكان ما حتى يشاهده والده أو والدته، والواجب أن يتم ذلك بأسلوب مرن يحافظ على نفسيته. إن الطلاق زلزال صامت يفجر بنيان الأسرة، وهو فى الغالب قرار غير صائب، وتتضرر منه كل الأطراف، وتتجرع الأسرة بسببه «مرارة الانكسار»، وفى ذلك يقول الطبيب النفسى الأمريكى جون جراى: «لا أعرف زوجين تطلقا ولم يصبهما الضرر»!، وهو قول صائب، فضرر الطلاق يقع على الأزواج، ثم يتعداهم إلى الأبناء، وعلى الأبوين أن يأخذا فى الاعتبار أبناءهما الذين ستقوم عليهم بيوت فى المستقبل، فيحافظا على رمزية صورتى الأم والأب معا، وعدم خدشها أو كسرها فى نفسيتهم. أيضا فإن تأثير انفصال الزوجين على الأبناء, يظهر فى شكل أعراض كالخوف والقلق والاكتئاب ومشاعر الضعف والعجز، ويتفاوت هذا التأثير وفقا للمرحلة العمرية، وهو ما حدث معك عندما كنت تتخيلين وأنت فى «الحمّام» أن هناك من يناديك باسمك، فيصيبك الهلع، لكنك لم تجدى من يهدّئ روعك، ويطمئن بالك، فلجأت دون خبرة إلى من أوهمك أنه سيعالجك، فإذا به يدفعك إلى الزواج منه، ولم ينتبه والداك إلى المصير المؤلم الذى تساقين إليه، بعد أن أعمت كلاهما أنانيته مدفوعا بشريك حياته الجديد، وكانت النتيجة أن زوجك الذى استمررت معه عشر سنوات، وأنجبت منه ثلاث بنات، تركك تصارعين الحياة وحدك، بعد زواجه من السيدة الأجنبية، ولم تمض فترة طويلة حتى أخذ البنتين الكبريين بعد رحيل الصغرى، وتكرر السيناريو نفسه مع زوجك الثانى الذى لا أدرى كيف وافقت عليه، وهو زوج وأب، مع اختلاف واحد هو أنه ترك لك ابنتكما الوحيدة المريضة بالقلب حتى لا تكون عبئا عليه، ولم تدرسى الأمر جيدا قبل الارتباط به، ولم تستعينى بأقاربك ليكونوا سندا لك بعد جفاء والديك! إن أبناء المطلقين يعانون ضغوط «اللوم المتبادل» بين الوالدين, والصراعات من أجل حضانتهم, وفات من ارتبطت بهما أن الطلاق يجب أن يكون حضاريا، بمعنى أن يعى كلاهما أنه قد يكون زوجا غير مناسب، ولكن يمكنه أن يكون أبا جيدا, وأن يظهر احتراما وتقديرا متبادلا معك أمام الأبناء, وألا يستغلهم فى حمل رسائل منك إليه والعكس، وأن يكون تواصلكما بشكل مباشر.. وبصورة عامة إذا تحقق ذلك بين الآباء والأمهات فإن تأثير الانفصال يكون إيجابيا على الأطفال أكثر من الاستمرار فى حياة أسرية غير مريحة لكل الأطراف، ومن المهم أن يتقاسم الوالدان إدارة انفصالهما بطريقة تحد من الضغط والتأثير السلبى على الأسرة، فالأبناء يشعرون بالخوف والارتباك، وقد يتعرضون للأمراض النفسية والجسدية التى تترابط بشدة، كما أن معيشة الطفل فى منزلين مختلفين، يمكن أن تسبب له البؤس والضيق، والمؤسف أن كلا الوالدين لا يجد حرجا فى تجريد الآخر من الصورة المثالية التى يرسمها الأبناء له، فيتعمدان تشويه صورتيهما أمام الأبناء، ولا يعلمان أنهما بأنانيتهما يدمران نفسياتهم، وربما سلوكياتهم لأنهم حينئذ يشعرون بالضياع ولا يجدون فى والديهم المثل والقدوة التى تمثل الدليل المرشد لكل شخص، ومن هذا المنطلق إذا وجد الوالدان ضالتهما فى الانفصال، فعليهما ألا يهدما المعبد على رءوس أبنائهما، وأن يحتفظا باحترامهما بعضهما أمامهم، وأن يرسم كل طرف صورة حسنة للآخر حتى ولو صورة مزيفة وغير واقعية. ومن أسس التربية السليمة للأبناء عدم اللجوء إلى الطلاق إلا بعد فشل جميع الحلول، فإذا وقع لا محالة، يجب حمايتهم من مخاطره، وتأمين احتياجاتهم النفسية من العطف والحنان، والتى لا يوجد لها بديل على وجه الأرض، فهى لا تباع ولا تشترى، وعندما يتربون فى كنف أحدهما يكونون أشبه بالأيتام، ولهذا يلعب التكافل الاجتماعى دورا حيويا فى هذه الناحية، ومن ثمّ يجب توعية الزوجين بالحقوق المشتركة بينهما والمبنية على «التسامح المتبادل»، ومواجهة قضايا الحياة بالتعاون والمحبة والمودة، وألا يتسلح كل طرف بحقوقه، وينسى حقوق الآخر. والحقيقة أن أباك وأمك ارتكبا خطأ فادحا بتخليهما عنك عندما تقدم إليك من أطلقت عليه اسم «المعالج»، فزوّجت نفسك، أو وكّلت من يزوّجك، وكان الواجب أن يتولى والدك هذا الأمر، وليس لك أن تفعلى ذلك، إذ كانت تداعياته خطيرة عليك، ثم تكرر الخطأ نفسه مع زوجك الثانى، وكلاهما وجد الفرصة مهيأة له لكى يتلاعب بك كما شاء، فلتحذر كل فتاة وسيدة، وكل أب وولى أمر الوقوع فى هذا «الفخ» الذى ينساق إليه الكثيرون بلا وعى.. أما عن فارق السن فإن بعض الفتيات يفضلن الرجل المتقدم فى العمر بسبب عقدة بداخلهن منذ الصغر، تكونت نتيجة لبعد آبائهن عنهن أو فقدانهن فى سن مبكرة، مما يجعلهن يملن إلى الرجال كبار السن عسى أن يجدن فى أحدهم ما افتقدنه فيه، وهناك ظروف اجتماعية تؤثر على حالة الفتاة وتشعرها بأنها فى حاجة إلى تغيير طبقتها والصعود إلى طبقة أخرى، الأمر الذى يجعلها تفكر فى رجل يحقق لها هذا الهدف، وهذه خطيئة أخرى، من المهم أن تأخذها الفتاة فى الحسبان عند التفكير فى الزواج. ولاشك أن الطلاق ليس نهاية الحياة بالنسبة للمرأة، فهو ليس عيباً ينتقص من قيمتها كزوجة وقدرتها على النجاح، فالتسرع فى الزواج، وإتمامه بعيدا عن الأهل من أبرز أسباب فشله، وعليك أن تحسبى خطوتك القادمة، وأن تستفيدى من الأخطاء السابقة، وأنت تتطلعين إلى الارتباط برجل يقدرك، ولا يكرر ما صنعه زوجاك السابقان، وسوف يأتيك من هو أهل لك، وليس هاربا من زوجته، أو ساعيا إلى زواج «ترانزيت» سرعان ما يتخلى عنه إلى زوجة جديدة، وكل ما عليك أن تضعى النقاط على الحروف فى كل كبيرة وصغيرة، وأرجو من أخوتك من أبويك أن يساندوك ويشدّوا من أزرك، فأنت أختهم، وسوف يكون صنيعهم معك فى ميزان حسناتهم، وفقك الله وسددّ خطاك، وهو وحده المستعان.