هبّت العاصفة. وكان الرُّسل فى بحر الجليل يحاولون قيادة سفينتهم عكس اتجاه الريح. ولمّا رآهم السيد المسيح، بعد أن انتهى من الصلاة على الجبل، بدأ يمشى على الماء باتجاه السفينة. لكن، حين نزل «بطرس» من السفينة، خاف من العاصفة، فلم يستطع المشى طويلًا، وكاد يغرق لولا أن أمسك السيد المسيح بيده وسأله: لماذا بدأت تشك؟ أين إيمانك؟. وبصعود الاثنين إلى السفينة، سكنت الريح وتوقفت العاصفة. من هذه القصة الإنجيلية، كما نعتقد، خرجت فكرة «العالم العربي: المشى على الماء» التى كانت عنوانًا للجلسة التاسعة ل «ملتقى أبوظبى الاستراتيجي» الخامس، الذى ناقش، على مدى يومين، العديد من المحاور، أبرزها توزيع خريطة القوة العالمية. والسياسات الأمريكية والروسية والصينية والأوروبية والهندية والإفريقية ضمن سياق تباينات القوة. وما توصف ب «صفقة القرن». وتطرق إلى تجربة دولة الإمارات كنموذج فى بناء القوة الناعمة وتوظيفها. وإجمالًا، قدم الملتقى قراءة لتغيير مفهوم القوة وتوزيعها دوليًا وإقليميًا، بعيون سياسيّين وصانعى سياسات وخبراء بارزين ومديرى مراكز تفكير من دول مختلفة. العالم العربي، بالفعل، يمشى على ماء مستنقع من الفوضى والإرهاب والأزمات الاقتصادية والمجتمعية. ولا سبيل للخلاص إلا بحل مشكلات «الدولة الوطنية» والاختلالات الهيكلية. ولا مجال للحلول الجزئية للصراعات والنزاعات، أينما كانت، وإنما بحل شامل وإعادة أبناء الوطن الواحد والمشاركة فى البناء والإعمار، ومحاسبة المخربين، والدول التى ترعى الإرهاب. وما بين التنصيص من كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، أمام المجلس الفيدرالى الروسي، منتصف أكتوبر الماضي، التى أكد فيها أن تفكيك الدولة الوطنية تحت أى ذرائع، يؤدى إلى مزيد من الانهيار وتأجيج الصراعات الطائفية. والمعنى نفسه كرره الرئيس فى مناسبات عديدة، أبرزها فى خطاباته أمام جلسات الجمعية العامة. كما حرصت مصر على الاشتراك فى كل الجهود الدولية والإقليمية للتصدى للإرهاب، وأطلقت خلال الدورة رقم 70 للجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة الأمل والعمل Hand، لمواجهة قوى التطرف والإرهاب. هذا المستنقع، مستنقع من الفوضى والإرهاب والأزمات الاقتصادية والمجتمعية، خلقته قوى دولية، باستخدام تركيا، وباستغلال أوهام قطر وتخيلاتها لدورها القيادى والمحورى فى المنطقة وتجاهلها حقيقة قدراتها المحدودة على التغلب على قواعد الجغرافيا والفيزياء والسياسة وواقع العلاقات الدولية. والشك فى ذكائك واجب، لو اعتقدت أن الإرهابيين يحركهم «المُعتَقد»، ولا تحركهم أجهزة مخابرات دول، هى ذاتها التى تحرك العائلة الضالة التى تحكم قطر بالوكالة، وتأمرها بأن تكون مطية للإرهابيين. وهى الدول نفسها أيضًا التى تحرك تركيًا وتستعمل حاكمها. لم تكن تلك فدية «المليار دولار»، هى وجه الدعم الوحيد الذى قدمته قطر إلى الإرهابيين، بل كان جزءًا من صفقة أكبر بين الحكومات القطرية، الإيرانية والتركية، سبقتها ولحقت بها، أوجه دعم أخرى كثيرة، أقلها تمويل جماعات إرهابية بمبالغ خيالية، وقيامها مع تركيا باتصالات بين قيادات التنظيمات الإرهابية فى ليبيا وتونس والجزائر بشأن ترتيبات عودة مقاتلى «داعش» و«القاعدة» إلى بعض مواقعهم السابقة، خصوصًا فى سرت، فى مسعى من الدولتين، تركياوقطر، لتحويل ليبيا إلى قاعدة رئيسية للإرهاب الدولى وبناء تحالفات عسكرية بين الميليشيات والجماعات الإسلامية المتطرفة. أوهام قطر وتخيلاتها لدورها القيادى والمحورى فى المنطقة، فندتها الجلسة الثانية عشرة والأخيرة لملتقى أبو ظبي، وسبقها نسف الرؤية غير الواقعية لمشروعات تركيا الجيوسياسية، فى الجلسة الحادية عشرة التى تناولت «معضلة القوة التركية المتخيلة»، وحملت رسالة طمأنة للعرب بأن العثمانيين انتهوا، ولن تعيدهم محاولات (أو مؤامرات) رجب طيب أردوغان، الذى من المفترض أن يكون قد اكتشف محدودية دور تركيا، دبلوماسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. ولولا أن العزة أخذته بالإثم، لأدرك عجزه عن لعب الدور، المطلوب منه أمريكيًا، لترويض المنطقة، وتقديم نموذج الإسلام الذى تتوافر فيه شروط الاعتدال، كما تراها واشنطن، فى إطار مشروع «الشرب أو االشرق الأوسط الكبير» الذى كان واحدا من خطوات تحقيق حلم «الإمبراطورية الأمريكية»، وصياغة ما سُمِّى ب «القرن الأمريكى». منذ سنة 2004 كان أردوغان هو «الفرس» الذى راهن عليه الأمريكيون لتحقيق هذا الحلم، حلم «القرن الأمريكى» أو «الإمبراطورية الأمريكية». وعندما انفجر ما يوصف ب «الربيع العربي»، اعتقد الرئيس التركى أنه سيقود حزامًا من الدول العربية عبر جماعة الإخوان. وبالتالى سيتمكن من ضرب عصفورين بحجر واحد، أحدهما هو أن يكون الوكيل الأمريكى الحصرى فى المنطقة، والثانى هو التفاوض مع أوروبا، من موقع قوة، بشأن انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي. لكنه من حيث أراد تحويل سياساته، رهاناته أو مراهناته، الخارجية إلى مكاسب داخلية، خسر الداخل والخارج، وستلازمه إلى أن يموت مرارة عدم تحقق أحلامه فى مصر أو سوريا أو ليبيا أو حتى فى تونس. غير أن العصفورين طارا بضربتين قاضيتين مزدوجتين، قام المصريون فى الأولى بكنس الإخوان وإزاحتهم عن حكم مصر، وفى الثانية تقارب الأكراد بدرجة أكبر من الولاياتالمتحدة، وبات حدوث انقسامات داخل تركيا وشيكًا. وبهذا الشكل، يكون السحر قد انقلب على الساحر. هبّت العاصفة. وكان العالم العربى يحاول قيادة سفينته عكس اتجاه الريح، فى مستنقع الفوضى والإرهاب والأزمات الاقتصادية والمجتمعية. ولمّا رآه المصريون، بعد أن قاموا بثورتهم واستعادوا دولتهم، بدأوا يمشون على الماء باتجاه السفينة. لمزيد من مقالات ماجد حبته