شهد المجتمع المصرى فى الآونة الأخيرة جدلا شديدا حول إلغاء الرسوم الجمركية عن سيارات الركوب المصنعة فى الاتحاد الأوروبى بدءا من اول يناير 2019، تطبيقا لاتفاقية الشراكة الموقعة عام 2001 والتى دخلت حيز التنفيذ فى 2004، وبموجبها تم تخفيض الرسوم الجمركية على السيارات الأوروبية 10% سنويا، ورغم ان القرار معروف مسبقا منذ تطبيق الاتفاقية إلا ان البعض نادى بعدم التطبيق بحجة تعريض الصناعة الوطنية للخطر، وهى الحجة التى غالبا ما تثار عند الحديث عن السياسة الجمركية، فمنذ ثلاثينيات القرن الماضى حينما تم الآخذ بهذه السياسة وأصدرت الحكومة المصرية سلسلة التعريفات الجمركية الشهيرة أعوام 1930 و1934 و1938 بناء على طلب اتحاد الصناعات فى تقريره عام 1926 والجدل مستمر حول فاعلية السياسة الجمركية فى تحقيق الأهداف التنموية للمجتمع، إذ تعد إحدى أدوات السياسة المالية التى تعمل على تحقيق الأهداف التنموية، وذلك عن طريق الاستخدام الامثل لفئات الضريبة الجمركية لتتلاءم مع الظروف الاقتصادية والتطورات الاجتماعية وبما يتناسب مع الأوضاع المعيشية، بالإضافة الى تحسين البيئة الاستثمارية وتنقية المناخ الاستثمارى ليصبح أكثر قدرة على جذب الاستثمارات، مما يساعد على تنشيط عجلة الاقتصاد القومى وزيادة فرص التشغيل وامتصاص جانب كبير من البطالة، فالسياسة الجمركية الصحيحة هى التى تعمل على ضمان حصول المواطن على السلعة الجيدة بالأسعار المناسبة بما يحقق له مستوى معيشة لائقا. جنبا إلى جنب مع العمل على مساندة الصناعة المحلية وتدعيم المنتج المصرى وتشجيعه على الوقوف امام المنافسة العالمية غير العادلة، وكلها أمور تساعد على تهدئة الأسعار، وزيادة الصادرات وفتح مجالات جديدة للاستثمار. ولهذا فقد أحسنت وزارة المالية صنعا حين طرحت مشروع قانون الجمارك الجديد على الرأى العام للنقاش والحوار، خاصة انه يتزامن مع أوضاع تجارية عالمية غاية فى الصعوبة فى ظل الحروب التجارية الجارية بين الولاياتالمتحدةوالصين والاتحاد الأوروبي، الامر الذى دفع بكريستين لاجارد المدير التنفيذى لصندوق النقد الدولى الى التحذير من هذه المسألة، مشيرة الى انها يمكن ان تقود الى آثار مدمرة على الاقتصاد العالمى ككل، وبالتالى يجب نزع فتيل التصعيد فى النزاعات التجارية، والمطالبة بالاحتكام الى قواعد اذكى للتجارة الدولية، أى إصلاح النظام لا تدميره، وهنا يشير صندوق النقد الدولى الى ان إحدى المشكلات الأساسية التى تواجه النمو العالمى هى السياسات الانغلاقية، إذ نشهد حاليا إعادة تفاوض بشأن اتفاقيات تجارية مهمة طُبِّقَت لفترة طويلة، مثل اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة (نافتا)، والاتفاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة وبقية بلدان الاتحاد الأوروبي. وإذا زادت الحواجز التجارية أو غيرها، فسوف تؤثر سلبا على الاستثمار العالمى وتحد من كفاءة الإنتاج، مما يشكل عبئا معوقا للنمو الاقتصادي. وبالتالى ستؤدى السياسة التجارية الراهنة إلى إصابة الاقتصاد العالمى بالضعف، وكذلك انهيار أحد اضلاع المثلث للنظام الاقتصادى القائم والخاص بضمان تدفق التجارة الدولية دون اللجوء إلى ممارسات تمييزية فى التجارة بتعزيز دور منظمة التجارة العالمية. والتى هدفت الى فتح الأسواق، عبر خفض التعريفات الجمركية، بحيث يصبح البشر فى شتى أنحاء العالم جزءا من سوق استهلاكية عالمية موحدة. الأمر الذى حد من إمكانية الدولة القطرية، فى استخدام أدواتها الاقتصادية لتحقيق أهدافها. وبدأ تحطيم التمييز التقليدى بين السياسات الاقتصادية لبلد ما، الداخلية والخارجية، فأصبح على الدول ان تناقش السياسات الداخلية مع شركائها التجاريين، وهنا يشير تقرير الاونكتاد الصادر أخيرا الى ان الدرس المستفاد من الأوضاع الراهنة هو وهم التجارة الحرة فى ضوء سياسات التقشف المفروضة على البلدان النامية، وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات على مقاليد الأمور، وفى ظل استمرار عدم المساواة وارتفاع المديونية العالمية التى قاربت 250 تريليون دولار عام 2018 أى ثلاثة أمثال الناتج العالمى وغيرها من الأمور التى أدت الى الحروب التجارية الجارية الآن والتى تعد عرضا لمرض العولمة غير العادلة ومن المؤشرات المهمة فى هذا الصدد ازدياد النزاعات التجارية وحدتها منذ نشأة المنظمة وحتى الآن. اذ وصل اجمالى النزاعات الى 520 جاءت معظمها من الولاياتالمتحدة (21٫5%) يليها الاتحاد الأوروبى بنسبة 18% وفى المقابل هناك نحو 129 شكوى ضد الولاياتالمتحدة يقابلها 83 شكوى ضد الاتحاد الاوروبى، اما الصين فقد تقدمت ب 15 شكوى مقابل 38 شكوى مقدمة ضدها. فى خضم كل هذه التطورات يأتى الحديث عن السياسة التجارية المصرية، والتى ينظمها إطار تشريعى يتضمن قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963، وكذلك قانون تنظيم الإعفاءات الجمركية وقم 186 لسنة 1986، وآليات التعريفة الجمركية مع ملاحظة ان حجم التجارة الخارجية يشكل نحو 36% من الناتج المحلى الإجمالى (10% للصادرات السلعية و26% للواردات) وهنا نلحظ ان الحصيلة الجمركية قد ارتفعت من 7٫4 مليار جنيه عام 2000/2001 الى 9.7 مليار عام 2005/2006 والى 3٫44 مليار عام 2016/2017. بما يمثل نحو 6٫7% من اجمالى الإيرادات العامة ونحو 4٫6% من اجمالى الإيرادات الضريبية وتشير الإحصاءات الى ان معظم الحصيلة الجمركية تأتى أساسا من الجمارك على سيارات الركوب والتى وصلت حصيلة الجمارك منها الى 43% من قيمة الواردات من هذه السلعة تليها السلع المعمرة، والسلع الاستهلاكية نصف المعمرة. كما ان نسبة الإيرادات الجمركية من أجمالى قيمة الواردات لم تتجاوز 3٫9% خلال 2016/2017، ويرجع السبب فى ذلك الى عوامل عديدة منها التخفيضات المستمرة فى التعريفة الجمركية خاصة ان معظم هذه التعديلات جاءت اقل كثيرا من التزامات مصر فى منظمة التجارة العالمية وهذا الخلل أدى الى تشجيع الاستيراد بدلا من شراء المنتج المحلى، بالتالى تزايد عجز الميزان التجارى فوصل الى 37 مليار دولار عام 2017/2018 والمزيد من الضغوط على سوق الصرف، والاهم من ذلك ان هذه السياسة لم يترتب عليها انخفاض فى أسعار السلع المرتبطة بها فى الأسواق المحلية. وبالتالى لم يستفد المواطن منها نتيجة لما يتسم به الاقتصاد المصرى من احتكارات كبيرة تحول دون تفعيل هذه الآلية. ويصبح التساؤل هو هل تعامل المشروع الذى بين أيدينا مع هذه الأمور؟ هذا ما سنتناوله فى المقال المقبل بإذن الله لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى