بالرغم من أن الجمهوريين حافظوا على تفوقهم فى مجلس الشيوخ، فقد أثبت الديمقراطيون أنهم تجاوزوا نتيجة الانتخابات الرئاسية التى هزمت فيها هيلارى كلينتون، وأنهم يستطيعون جذب المزيد من المؤيدين من الطبقة الوسطى الامريكية، والتى تنتشر فى المدن والمناطق الحضارية بوجه عام، وهو ما يجعلهم قريبين من طرح مرشح رئاسى لمنافسة الرئيس ترامب والانتصار عليه فى انتخابات الرئاسة 2020. لقد أصبح الكونجرس بمجلسيه منقسما، حيث الغالبية للديمقراطيين فى مجلس النواب وهو المُكلف بوضع التشريعات والموافقة على مقترحات الرئيس بشأن القوانين أو تعديلها، وله دور مهم فى اعتماد الميزانية السنوية التى تتقدم بها الإدارة. وذلك مقابل الجمهوريين الذين حققوا الغالبية فى مجلس الشيوخ وهو المُناط إليه التصديق على تعيينات الرئيس للمحكمة الدستورية العليا، وبما يجعل الرئيس غير مقيد فى أى تعيينات مقبلة لهذه المحكمة العليا. مثل هذا الانقسام ليس جديدا فى الحياة السياسية الأمريكية، وفى كل المراحل التى شهدت انقساما كهذا كان العمل الحكومى يمر بلحظات حرجة، لاسيما حين تؤجل الانقسامات اعتماد الموازنة العامة للبلاد لعدة أشهر عن موعدها المعتاد. والمرجح وفقا للمؤشرات الأولية أن الديمقراطيين حين يتسلمون مجلس النواب فى يناير المقبل كأغلبية سيقفون بالمرصاد للرئيس ترامب فى أكثر من قضية داخلية وخارجية، وسوف يسعون إلى فرض رؤيتهم فى أى تشريع قانونى ينوى الرئيس طرحه. ومنذ اللحظات الأولى التى تبين فيها تفوق الديمقراطيين فى مجلس النواب بدت نياتهم فى أمرين أساسيين؛ الأول الاستعداد لطرح المزيد من الإجراءات الرقابية على أداء الرئيس ترامب، ومراجعة بعض قراراته المتعلقة بالهجرة والضرائب والصحة العامة، والعلاقة مع دول الناتو ومع روسيا، والاتفاقات الدولية التى انسحب منها الرئيس ترامب كمعاهدة حماية المناخ وحماية البيئة والاتفاق النووى مع إيران واتفاقات التجارة الحرة مع العديد من الدول مثل كندا والمكسيك. والثانى الإصرار على أن تتوافر كل الضمانات القانونية والدستورية للمحقق الخاص روبرت ميلر الذى يتولى ملف التحقيق فى مزاعم التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية لمصلحة الرئيس ترامب أو بالاتفاق والتنسيق مع حملته. وسوف يقدم الديمقراطيون فى مجلس النواب كل أنواع الدعم القانونى لهذا المحقق وصولا الى ما يعتقده الديمقراطيون دليل إدانة لحملة الرئيس ترامب فى الانتخابات الرئاسية، وأن التدخلات الخارجية لاسيما الروسية كانت السبب فى هزيمة هيلارى كلينتون وليس تفوق أداء المرشح آنذاك ترامب. وفى كل الأحوال فمن المتوقع أن يكون هناك المزيد من التحقيقات التى يدعمها الديمقراطيون فى ملفات ذات صلة بملف التحقيق الأم، أو ملفات فرعية أخرى تتعلق بالسلوك الشخصى للرئيس أو بعض افراد أسرته أو القريبين منه، وبما يتصورون أنه سيؤدى إلى ادانته أخلاقيا وسياسيا، ومن ثم سيؤثر على صورته أمام المواطن الأمريكى ويضعف مكانته. أما مسألة الاتجاه إلى محاسبة الرئيس وعزله إذا ثبت فعل الخيانة أو تجاوز الصلاحيات الدستورية بدليل قاطع، فليست مطروحة لأن عزل الرئيس يتطلب إلى جانب موافقة مجلس النواب، موافقة مجلس الشيوخ بنسبة ثلثى الأعضاء. وهو ما يتعذر حدوثه عمليا فى ضوء النتائج التى حققها الجمهوريون فى انتخابات الكونجرس الأخيرة. إرباك الرئيس ترامب ووضعه تحت ضغط قانونى ودعائى وسياسى تبدو الاستراتيجية التى سيلتزم بها الديمقراطيون فى العامين المقبلين، وللخروج من هذا المأزق وللتخفيف من أثر تلك الضغوط، هناك مساران محتملان؛ الأول أن يعتمد الرئيس ترامب سياسة المهادنة والتعاون مع الديمقراطيين من أجل تمرير التشريعات والسياسات التى تحافظ له على قدر من الإنجاز وبما يساعده على متابعة العامين المقبلين من عمر إدارته الاولى وفق حد أدنى من الخسائر. ويتوقف الأمر على مدى التنازلات التى سيقدمها الرئيس ترامب ويقبل بها الديمقراطيون، وفى الآن نفسه لا تفقده نسبة مؤثرة من قاعدته الانتخابية. والديمقراطيون يدركون ذلك والمرجح أنهم سيرفعون حجم مطالبهم وبما لا يستطيع الرئيس ترامب الوفاء بها، وبالتالى يظل رئيسا فاقدا القدرة على العمل وإنجاز وعوده. أما المسار الثانى فيعنى بأن يتخلى الرئيس ترامب عن أولوياته الداخلية أو الجزء الأكبر منها وأن يركز أكثر وأكثر على ملفات السياسة الخارجية متطلعا الى تحقيق إنجازات ملموسة تحفظ له بعض شعبيته بحيث يعتمد عليها لاحقا فى حملته الرئاسية المقبلة 2020. ومن الملفات المتوقع أن يركز عليها ترامب ما يوصف بأنه صفقة القرن بين الفلسطينيين وإلى جوارهم العرب أو غالبيتهم من جانب، والإسرائيليين من جانب آخر، وملف كوريا الشمالية ونزع سلاحها النووى، والمزيد من العقوبات على إيران وصولا إلى مفاوضات معها تحقق الشروط الأمريكية الاثنى عشر أو غالبيتها على الأقل، وتشكيل ما يعرف بناتو عربى تشارك فيه عدة دول عربية بهدف الضغط العسكرى على إيران على أن تتولى شركات السلاح الأمريكية توريد أنظمة الأسلحة المختلفة لهذا الناتو العربى، وعودة الاهتمام مرة أخرى بملف الانتشار والمد الديمقراطى فى الشرق الأوسط وإعلاء ملف حقوق الإنسان والتراجع النسبى عن أولوية الدولة الوطنية، والضغط من أجل وقف الحرب فى اليمن والعودة إلى مفاوضات تسوية سياسية برعاية أمريكية مباشرة. وفى كل ملفات السياسة الخارجية الأمريكية المُشار إليها هناك الكثير من الخلافات بين رؤية ترامب ورؤية الديمقراطيين، ومن ثم فمن المرجح ان يقوموا بعملية تعطيل متعمد فى بعض الملفات. وتبدو الخلافات واضحة فى ملفى العلاقة مع روسيا التى تعد قوة الشر الأولى لدى الحزب الديمقراطى والذى يطالب بمزيد من العقوبات عليها ومزيد من عزلها سياسيا، وهو ما يعمل عليه الرئيس ترامب بالفعل ولكن بوتيرة أقل مما يرغب فيه الديمقراطيون. أما ملف العقوبات على ايران فهو مضاد لرؤية الحزب الديمقراطى من زاوية رفضهم الرئيسى إلغاء الاتفاق النووى مع إيران، والذى كان يعتبره الديمقراطيون أيقونة الرئيس أوباما. ويتصل الأمر بما يوصف بصفقة القرن التى لا هوية محددة لها. أما ملف الحرية التجارية فهو مجال آخر للتباينات، ومن ثم فإن سعى ترامب نحو إنجاز كبير فى السياسة الخارجية غالبا ما سيواجه عقبات كبيرة، مما سيضفى على فترته الأولى ظلالا من الشك فى قدرته على حماية المصالح الرئيسية للولايات المتحدة. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب