باحتراف شديد، قام المخرج الأمريكى كوينتين تارانتيو ببناء شخصيات فيلمه «جانجو طليقًا»، وكان أبرزها، فى تصوري، شخصية الخادم (العبد) الأسود ستيفن (صامويل جاكسون)، الذى كان أكثر قسوة على العبيد، السود، من سيده الأبيض كالفين كاندى (ليوناردو دى كابريو)، تاجر الرقيق. فى الفيلم، الذى طرح جوانب من مأساة العبيد ذوى الأصول الإفريقية، لم يكن «ستيفن» بين الشخصيات الثلاث المحورية، لكنه بكراهيته لمن هو منهم واحتقاره لهم، قدم نموذجًا واقعيًا، متكررًا ومستمرًا، لضحية تحولت إلى جلاد أكثر شراسة من الجلاّد نفسه، لا يختلف عن عشرات النماذج التى صعدت، أو تم تصعيدها، على الساحة السياسية الأمريكية، وتم الاحتفاء بها، والتهليل لها، داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، لكونها سوابق أولى فى تاريخ تلك الدولة: أول أسود.. أول امرأة.. أول مسلم.. أول مسلمة.. وأول محجبة.. إلخ. الرئيس السابق باراك أوباما، مثلًا، هو أول رئيس من ذوى البشرة السمراء فى تاريخ الولاياتالمتحدة. ومع ذلك، استمرت معاناة تلك الفئة طوال فترة حكمه، وظلت التفرقة العنصرية مسيطرة على المجتمع الأمريكي. وكانت كل محاولات إنكار تفشى تلك الظاهرة، سرعان ما تتبدد فور إعلان مقتل مواطن أسود على يد رجل شرطة أبيض، وما يتبع ذلك من احتجاجات واسعة واشتباكات وصدامات عنيفة بين قوات الشرطة والمواطنين ذوى الأصول الإفريقية، «السود»، وهو ما تكرر بشكل لافت طوال سنوات حكم «أوباما» الأربع، إذ تقول الأرقام إن الشرطة الأمريكية قتلت 136 من السود خلال عام 2016، العام الأخير فى حكم الرئيس السابق!. فى عهد أوباما، أيضًا، أشار تقرير لمؤسسة «القرن الجديد» إلى ارتفاع التمييز العنصرى وفق المعايير الدولية، وأوضح أن 1 من كل 4 أمريكيين سود، يعيشون فى فقر شديد، مقارنة بواحد إلى 13 من الأمريكيين البيض. وأن أقل من 10 % من الأسر تعيش فى فقر بالمناطق ذات الأغلبية البيضاء، بينما ترتفع النسبة إلى أكثر من 50 % فى المناطق ذات الأغلبية السوداء. وهناك تقارير عديدة انتقدت الأوضاع السيئة التى تغذى التوترات العرقية والتمييز العنصري، وعدم المساواة الاجتماعية وسوء الأحوال المعيشية لتلك الفئة. ووصل الأمر إلى حد أن نشرت مجلة «تايم» صورة لاشتباكات «بالتيمور» مكتوبا عليها 1968، وهى السنة التى اغتيل فيها مارتن لوثر كينج، وقام الرئيس ليندون جونسون، بتوقيع قانون «الحقوق المدنية» الذى يضمن العدل والمساواة بين الأعراق والألوان والجنسين فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. بعد تلك المقدمة الطويلة، التى نراها ضرورية، وفى هذا السياق، يمكننا أن نتناول فوز امرأتين مسلمتين، إحداهما محجبة، تنتميان إلى الحزب الديمقراطى الأمريكي، فى انتخابات التجديد النصفى لغرفتى الكونجرس الأمريكي، التى حافظ فيها الحزب الجمهوري، حزب الرئيس دونالد ترامب، على الأغلبية فى مجلس الشيوخ، بينما انتزع الديمقراطيون الأغلبية فى مجلس النواب. وكان لافتًا أن بعض وكالات الأنباء الدولية، كوكالة الأنباء الفرنسية مثلًا، رأت فى فوز مرشحتين مسلمتين مفارقة أو «سابقة تأتى على الرغم من تصاعد الخطاب المعادى للمهاجرين إلى أعلى مستوى». ووضعت ذلك الفوز فى مقابل تقارير ذكرت أن الجرائم ضد المسلمين زادت بنسبة 21%، خلال النصف الأول من العام الحالي. إلهان عمر، الأمريكية من أصول صومالية، دخلت التاريخ كأول امرأة محجبة (ترتدى الحجاب) تفوز بعضوية مجلس النواب. ومن باب آخر، دخلت مع رشيدة طليب، الأمريكية ذات الأصول الفلسطينية، لكونهما أول مسلمتين تدخلان المجلس التشريعى الأمريكي. الأولى فازت عن دائرة ذات أغلبية ديمقراطية، كان يمثلها، منذ 2006، كيث إيليسون، أول مسلم ينتخبه الأمريكيون نائبًا فى الكونجرس. أما الثانية، فلم يكن لها منافس جمهوري، فى دائرتها التى كان يمثلها لسنوات طويلة جون كونيرز، قبل أن يستقيل فى ديسمبر الماضى إثر اتهامه بالتحرش الجنسي. ستحل إلهان عمر، إذن، محل «إيليسون» الذى قرر عدم خوض الانتخابات للتفرغ للتنافس على منصب المدعى العام للولاية. والمذكور، عضو بارز فى الحزب الجمهوري، وفى 25 فبراير 2017 استحدثوا له منصب «نائب رئيس اللجنة الوطنية» للحزب. بالإضافة إلى أنه، كما أشرنا، أول مسلم يدخل الكونجرس، وكان الجدل الأكبر الذى أثاره، أو أثير بشأنه، هو إصراره على أن يؤدى القسم وهو يضع يده على القرآن. وعلى الرغم من اعتراض نواب جمهوريين، تحقق له ما أراد، ونقلت قنوات تليفزيونية أمريكية، ثم عربية، ذلك «الحدث التاريخى». مع ذلك، أبدى «إيليسون» اهتمامًا ملحوظًا بحقوق المثليين وتطابقت مواقفه مع الإدارة الأمريكية، السابقة والحالية، بشأن الصراع الفلسطينى الإسرائيلي. وكذا، كان أداء أندرى كارسون، الذى صار عضوًا بمجلس الشيوخ، فى 2008، وفى 13 يناير 2015 صار أول مسلم فى لجنة المخابرات التابعة للكونجرس. وفى الانتخابات الأخيرة أعيد انتخابه بسهولة فى ولاية إنديانا التى تميل إلى الديمقراطيين، ليرتفع عدد المسلمين فى الكونجرس إلى ثلاثة. قد يكون فوز المسلمتين، المهاجرتين، خطوة تاريخية، شكلًا، لكنك ستكون ساذجًا لو اعتقدت أن فوزهما سيكون له أى تأثير على الموضوع الذى يغلفه ذلك الشكل، كالخطاب المعادى للمهاجرين أو المسلمين، مثلًا. ستكون ساذجًا، لأن هناك حالات أو سوابق، بالعشرات أو المئات، تؤكد أن حاملى الجنسية الأمريكية، مهاجرين كانوا أو مواطنين أصليين، مسلمين أم كفارا، جمهوريين أم ديمقراطيين، سودا أم بيضا، حال تصعيدهم سياسيًا، أو شغلهم مواقع، سواء بالانتخاب أو بالتعيين، قد يختلفون فى المواقف، لكنهم يلتقون فى المرجعيات ويتفقون فى الأهداف. بل إنهم يكونون أحيانًا، أو فى غالبية الأحيان، نسخًا مكررة من «ستيفن» أو هوما عابدين. لمزيد من مقالات ماجد حبته