تسابق محموم تشهده دول العالم المتقدم للتحول نحو الثورة الصناعية الرابعة فى شتى مجالات الحياة، خاصة المصانع والقطاعات الخدمية والطبية وهو ما يؤثر بالتبعية على طبيعة ونوعية المهن المتاحة للإنسان فى المستقبل. ولرصد المشهد عن قرب أتيح ل«الأهرام» أخيرا مشاركة وفد من الصحفيين الدوليين فى جولة لهيئة التبادل العلمى الألمانى للتعرف على رؤية العلماء والباحثين بالجامعات والشركات الصناعية الكبرى حول مستقبل العمل وعلاقة الإنسان ب «الروبوت» فى السنوات المقبلة. ولأن التقدم التقنى هو المحرك الأساسى للتطور الصناعى والنمو الاقتصادى فلم يكن الغريب أن تتحمس المراكز البحثية والشركات الكبرى بولاية بادن فوتنبرج بجنوب ألمانيا لتعزيز التكنولوجيا، حيث تعد الولاية من أغنى الولايات بفضل وجود أهم الشركات الصناعية فى مجال السيارات والأجهزة الإلكترونية والكيماويات. يقول د.بول أمبروستر، رئيس قسم إدارة التكنولوجيا بمعهد كارلسروه، إنه منذ القرن الثامن عشر ومع بدء الثورة الصناعية الأولى وابتكار الماكينات وصناعات الحديد والنسيج ثم الثورة الصناعية الثانية فى القرن التاسع عشر باستخدام الكهرباء لتعزيز الانتاج الضخم و الثورة الصناعية الثالثة أو الثورة الرقمية فى ثمانينيات القرن الماضى توالت التطورات التكنولوجية لنشهد ما نعرفه اليوم بالثورة الرابعة، حيث تشكل برمجيات الذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضى وإنترنت الأشياء والروبوت والتكنولوجيات الطبية المحركات الأساسية لهذه الثورة الصناعية. وبالأخذ فى الاعتبار أن المانيا دولة محدودة الموارد الطبيعية، كما أن متوسط الأعمار مرتفع فإنه من الضرورى أن نستمر فى تعزيز قدراتنا فى إنتاج المعرفة والاستفادة من التكنولوجيات المتقدمة للنمو الاقتصادى، لذلك تقوم الحكومة الفيدرالية بتمويل مشروعات بحثية فى العديد من علوم المستقبل واخترنا هذا العام أن نناقش مستقبل العمل وفى العام المقبل سنناقش مستقبل الذكاء الاصطناعى، كما نتعاون مع مختلف المراكز البحثية حول العالم فى الدراسات الإنسانية والعلوم الأساسية والتطبيقية لمناقشة مدى القبول المجتمعى للتحولات الصناعية القادمة والبرامج التدريبية التى يحتاجها البشر للتكيف مع الوظائف التى سيتولاها الروبوت والوظائف الإبداعية التى نحتاج فيها لقدرات الإنسان. ويقول رينهارد كارجر، المتحدث الرسمى لمركز أبحاث الذكاء الاصطناعى DFKI إن أفلام الخيال العلمى شوهت علاقة الإنسان بالروبوت فالإنسان هو من يصنع الآلة وليس العكس، والروبوت أفضل من الإنسان فى استرجاع ملايين المعلومات أو الذكاء المعرفى فى حين أن الإنسان أفضل بكثير من الروبوت فى الذكاء الاجتماعى والعاطفى وابتكار الافكار من خلال العمل الجماعى، إضافة إلى القدرة على القيام بالكثيرمن الحركات الجسدية التى يصعب على الروبوت تقليدها إلى الآن. لذلك من المهم مجابهة حالة الخوف والغضب التى تعترى المجتمعات عن مستقبل علاقة الإنسان بالروبوت. فهذه الأجواء ستؤدى لمحاربة التقدم التكنولوجى وليس تدعيمه، كما أنه من المهم تنمية مهارات البشر بالتعليم المستمر واستثمار قدراتنا العقلية فى الابتكار والإبداع والإشراف على الماكينات، أما الوظائف التى تتطلب جهدا عضليا وخطوات وظيفية مكررة فالماكينات أفضل منا فى ذلك. ومن المشروعات المهمة التى تمت زيارتها منصة الابتكارات الصناعية Arena 2036 والتى تجمع الشركات الناشئة والباحثين والشركات الكبرى فى مكان واحد للعمل معا وتجربة أفكار جديدة تدعم صناعة السيارات، حيث عرض الباحثون بمركز فراونهوفر نماذج أولية لبرمجيات تسهم فى سرعة جمع وتحليل البيانات عن قطع الغيار المستخدمة والوقت المستهلك لتنفيذ الأعمال. كما تم عرض نموذج لهيكل خارجى مزود بقرون استشعار يرتديه الفنى لمساعدته فى حمل الأجسام الثقيلة بسهولة والاستفادة من ذات التقنية لرصد ومتابعة الجهد العضلى الذى يبذله العمال والإنذار لتجنب الإصابات. ويقول أحد الباحثين إن وزن الهيكل الخارجى نحو 7 كجم ويتم الاستفادة بذات التقنية لإتاحة القدرة للمقعدين للوقوف والحركة. أما د. تيم شوارتز، مدير قسم البحوث للتكنولوجيات الداعمة للصناعة بمركز أبحاث الذكاء الاصطناعى، فعرض نماذج لبيئات عمل يتم ابتكارها بالمصانع حيث يكون للروبوت وبرامج الواقع الافتراضى الدور الداعم للفنيين والعمال سواء لنقل المعدات أو التواصل، حيث يتم فى المعمل الاستعانة بأكثر من ستة أنواع مختلفة من «الروبوت» التى تتفاوت فى قدراتها مابين حمل الأجسام الثقيلة أو إجراء عمليات فنية شديدة التعقيد تحتاج لعدة أذرع. ويضيف د. شوارتز أن البرمجيات الحديثة التى نقوم بتصميمها تسهم فى متابعة جميع مراحل التصنيع وفى نقل المعلومات للمديرين والعمال حول كل مرحلة تمت والإنذار فى حالة وجود أى مشكلة لسرعة حلها. هناك أيضا ما يعرف بالروبوتات ذاتية التوجيه التى تقوم بنقل المعدات وفق مسارات محددة وهى مزودة بقرون استشعار للتوقف حال اعتراض جسم لمسارها لتقليل احتمالات الحوادث فى المصنع. وفى الشأن الطبي، أتيح للوفد زيارة مركزبحثى بجامعة شتوتجارت يصنع نماذج لأجهزة روبوت لمساعدة وإسعاف المسنين والتواصل الكترونيا مع المراكز الطبية، وأيضا نماذج للروبوت المتحركة بالمستشفيات لتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية. أما على مستوى البرمجيات المبتكرة للرصد المبكر لأعراض الزهايمر فقد أكد د. جان الكسندرسون، رئيس المجموعة البحثية بمركز أبحاث الذكاء الاصطناعى، أن هناك اهتماما كبيرا فى الاتحاد الأوروبى بدعم البحوث المرتبطة بأمراض المخ مثل الزهايمر، حيث تتخطى ميزانيتها 800 مليار يورو ، وهى أضعاف الميزانيات المقررة لأبحاث علاج السرطان أو أمراض القلب. وأشار إلى عدد من الاختبارات الذهنية التى تجرى عن بعد أو بمشاركة الطبيب باستخدام الكمبيوتر ويمكن إجراؤها دوريا للمسنين لرصد تدهور الكفاءة الذهنية وعلاج المرضى مبكرا. المؤكد أن نمط الحياة يتغير تدريجيا خلال السنوات المقبلة مع هذا الزخم من الأبحاث والتجارب المعملية التى تقوم الشركات والمراكز البحثية بتمويل من الدول المتقدمة. فالتطلع لعلوم الغد أمر لامفر منه لتعزيز القدرات الصناعية والاستثمار فى المستقبل ولاعزاء للدول النامية.