عندما تخطى كاتبنا الكبير الراحل محمد حسنين هيكل الثمانين من عمره سطر مقالا رائعا بالأهرام بعنوان «استئذان» ذكر فيه: «كان تقديرى أن أى حياة عمرا وعملا لها فترة صلاحية بدنية وعقلية وأنه من الصواب أن يقر كل إنسان بهذه الحقيقة ويعطيها بالحس قبل النص واجبها واحترامها، ثم إنه من اللائق أن يجىء مثل هذا الإقرار قبولا ورضا وليس إكراها وقسرا. إن الحياد فيما يختص بمصائر الأوطان هرب أو تهرب، ومطلب عزل مصر فى ركن معزول من شمال شرق إفريقيا، وتنفرد إسرائيل بالمشرق العربى قوة رئيسية فى غرب آسيا وذلك هو المطلب البعيد المدى للفكرة الصهيونية وحلفائها. ومن المدهش أن وجه الحقيقة يتبدى بعد ثلاثين سنة من الضباب الكثيف، فالشواهد هذه اللحظة تنبئ بأن جموح القوة الأمريكية بغير فهم لم يكن ممكنا التعويل عليه دون تحفظ، وأن جنون السلاح الإسرائيلى بغير «رادع» لم يكن مهيأ لصنع السلام فى أى ظرف، وجوع الثراء العربى أكد لسوء الحظ أنه لا يعرف كفاية أو شبعا، وبالتالى فإنه لم يكن قادرا على دور قاطرة التنمية وتوفير فرص العمل فى المجتمعات العربية، وأن حالة الانفراط التى أصابت الرابط العربى المشترك لم تؤد إلى خلاص الأقطار العربية أو عزتها، وإنما وصلت بها إلى حالة من الاستباق الكاملة لاستقلالها بل لوجودها من الأساس، وتلك كلها أمور تستحق التأمل والدرس أمام إعصار عات لا يستعاد بعده لما كان قبله وإنما تستدعى لصده كل ملكات الأمة والمخزون من إرادتها والمتيقظ من علمها وفكرها. وقد اختتم الأستاذ هيكل مقاله المبهر بعبارة: «إن أى شخص يعطيه الناس مساحة من وقتهم مدين لهم بقيمتها وليس بمجرد حجمها, وبالتالى فإن عليه واجب ال(استئذان)». بحلول الذكرى الخامسة والتسعين لميلاد الأستاذ، أى بعد رحيله منذ ثلاث سنوات، نشر الأهرام يوم الأحد الموافق 23 سبتمبر الماضى نص محاضرة للأستاذ فى نقابة الصحفيين عام 1984 احتفظ بها كاتبنا المبدع محمد سلماوى حالت الظروف التى كانت سائدة وقت إلقائها دون أن يتم نشرها فى الصحف أو يشار إليها فى وسائل الإعلام. وبالرغم من أن المحاضرة كانت سابقة على مقال «استئذان» فإنها تميزت بمجموعة من الحقائق الإستراتيجية أوجز أهمها فيما يلى: مع انفجار ثورة النفط وما أدت إليه منذ مطلع عام 1974 (أى بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973) وما بعدها إلى اليوم طرأت تغييرات كبرى محلية وإقليمية ودولية وصلت بالعالم العربى إلى ما نراه الآن على امتداد الساحة كلها، وظهرت بوادر أزمات وصلت إلى حد التأثير فى الهوية ومجموعات القيم ذاتها، وفى هذه الأزمات تعيش الصحافة المصرية والعربية وينعكس عليها أرادت أم لم ترد ما هو واقع فى مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع. إنه لا يمكن أن تكون هناك سياسة لأى شعب أو أمة خارج الأوضاع الحضارية والاقتصادية والاجتماعية السائدة فيه، فالسياسة فى جوهرها هى التعبير عن حقائق هذه الأوضاع بما فى ذلك الرغبة فى تطويعها باستمرار إلى الأفضل. إذا أخذنا هذه النقاط وحاولنا تطبيقها على مصر فسوف نلاحظ ما يلى: أولًا: إن شعب وادى النيل لا يستطيع أن يقبع داخل حدود الوادى المحدودة ويضيع عليه مستقبله. ثانيًا: إن الجغرافيا وضعت هذا الوادى فى موقع من الدنيا مؤثر ومسيطر فى ملتقى البحار والقارات، ومن ثم فإن هذا الوادى عاجز عن إطعام سكانه برقعة أرضه المحدودة، بل إن الماء الذى يتمكن به هذا الوادى من زراعة أرضه لإطعام نفسه يجيئه من وراء حدوده، حيث تسقط أمطار لا يراها من أرض لا يعرفها. ثالثًا: كمية المياه المحدودة وانحسار رقعة الأرض تفرض ضرورات للتنظيم والعدل والمعرفة والتقدم الفكرى والمادى والدفاع. رابعًا: إن الحقائق السابقة تفرض على مصر اتباع سياسة لا تعتمد على المصادفة أو الأهواء أو الظروف الطارئة، بل تعتمد على سياسات ثابتة وصلبة وصبورة. خامسًا: الأفراد يعتزلون أدوارهم بالتقاعد، أما الأمم والشعوب فحياتها متصلة ومتجددة، والمنطقة التى نعيش فيها تقع وسط صراعات الدنيا وستظل كذلك لأننا نعيش فى عصر محكوم بالتناقض بين اثنتين من القوى لا تقدران على الحرب لأنها سوف تكون نووية، ولا تقدران على السلام لأن المصالح والعقائد متصادمة، ومنطقتنا بموقعها ذاته فى النقطة الأقرب للاحتكاك بين الاثنتين، بطن روسيا الاتحادية وجنب حلف الأطلنطى، وليس أمامنا غير أن نكون فى الملعب وإلا سوف نجد أنفسنا فى دور الكرة التى يلعب بها الكبار. عقدت دراسة معمقة بين نص محاضرة الأستاذ هيكل التى لم تنشر إلا يوم الأحد 23/9/2018 وبين مقال «استئذان» وخرجت باستنتاجية على قدر كبير من الأهمية، وهى تأكدى من أن الأستاذ كان سابقا لعصره طوال مشوار حياته، وأن كل وصاياه الإستراتيجية لتحقيق أمن مصر القومى نتيجة موقعها الجغرافى الفريد يتم تنفيذها حاليا ببطء ولكن بثقة بواسطة شرعية ثورة 30 يونيو/ 3 يوليو عام 2013. أثابه الله عن مصر والعروبة خير الجزاء حيًا وراحلًا. لمزيد من مقالات لواء د. إبراهيم شكيب