فى يوم من الأيام كان وجه مصر الثقافى والفكرى والحضارى يشع على العالم كله.. وكانت القاهرة قبلة المثقفين العرب يلتقون فيها إبداعا وتعليما وبريقا.. كانت ليالى القاهرة حافلة بكل وجوه العطاء الثقافى المتميز فى كل شىء .. كانت صحافة مصر مدارس فى الفكر والوعى والاستنارة وكانت أقلام كُتابها دعوات للحرية والمصداقية والترفع وكانت قضاياها تبدأ مع استقلال شعوبها وتنتهي مع رؤى واعية للمستقبل بكل ما يحمله من الأحلام والطموحات .. كانت منتديات القاهرة الثقافية تجمع أكبر عقول أبنائها, كان صالون العقاد وندوات طه حسين ومحاورات أمين الخولى وحفلات أم كلثوم ومعارضها ومتاحفها وحدائقها ومنتديات نجوم الفن والإبداع .. حتى نوادى مصر كانت تنافس اعرق نوادي أوروبا فى النظافة والرقى والخدمات.. وكانت إذاعة مصر هى المنارة التى أضاءت العقل العربى بكل ما هو رائع وجميل .. وإذا توقفت عند جامعات مصر فسوف تطل أمامك جامعة القاهرة بكل رصيدها ودورها الفكرى والثقافى, هذا بخلاف النقابات المهنية والتجمعات الفئوية التى كانت نموذجا فى الدور والمسئولية والرسالة.. الحديث عن مصر الثقافة يمكن أن يمتد كثيراً ويحتاج من الزمن والوقت الكثير ولكن هناك معادلات جديدة غيرت الصورة تماما ولا استطيع هنا أن أوجه اللوم والعتاب إلى أنظمة حكمت, ولكن لا يمكن أن نبرئ المصريين من مسئوليتهم عما حدث لهم سواء بالصمت أو التخاذل لأن الخلل الذى أصابنا ليس مسئولية وزير سابق أو لاحق ولا تتحمل مسئوليته حكومة دون أخرى لأن المسئولية تقع علينا جميعا فالحكومات ليست مسئولة عن فساد الأخلاق فى الكلام والحوار والسلوك, وما نشاهده الآن من مظاهر التراجع فى الدور والرسالة تتحمله أجيال فرطت فى دورها ابتداء بالمؤسسات الثقافية وقد أدارها بشر, وانتهاء بما يحدث فى الشارع كل يوم أمام عيوننا ونحن صامتون.. إن القاهرة التى كانت تقدم كل يوم إبداعا جميلا وفكرا مستنيرا لا تقدم الآن على شاشاتها ومواقعها غير طلاق فنانة أو جريمة أخلاقية أو مسئول مرتش أو سلوكيات منحرفة .. هذا ما نصدره كل يوم خارج حدودنا وبعد أن كان العالم ينتظر مقالات كتابنا وأفكار مبدعينا وإبداعات فنانينا لا شىء غير الفضائح والصراعات والخلافات على الشاشات والمواقع ويكفى أن تبدأ يومك وأنت تشاهد جريمة أو فضيحة أو مسئول مرتش.. هل تسمع كل ليلة سيول الشتائم التى تنطلق ولا تراعى فيها حرمة أوطان أو شعوب أو بشر... إن البذاءات بأقذر الألفاظ تطول القريب والبعيد رغم أن النقد شئ مباح ولكن له أصوله التى تراعى فيها أخلاقيات الناس وسلوكيات البشر لو انك جمعت على شريط واحد مسلسلات البذاءات فسوف تجد أمامك مجتمعا أخر غير الذى عرفناه وعايشناه حين كان يطل علينا صوت مبدع وفكر جاد ونقد موضوعى أمين .. إن النقد حق ولكن ما هى حدوده والحوار ضرورة, ولكن ما هى قواعده وأساليبه وكيف تسللت علينا هذه التلال من القواميس الرديئة والألفاظ الساقطة وكيف ينطلق من سماء قاهرة المعز كل هذا الغثاء ولا يمنعه احد .. إن المنافسة كانت دائما بيننا وبين الأجمل والأرفع ولم تكن أبدا من منا يكون أكثر إسفافا وتملقا ونفاقا.. لابد أن نعترف بأن الأخلاق تغيرت فى كل شئ وأن ثوابت الشخصية المصرية لم تعد كما كانت .. إن مجموعة من التجار وصلوا إلى أقصى درجات الجشع والتحدي لكى يجمعوا الملايين ويزدادوا ثراء على حساب طبقات فقيرة وعجزت الحكومات أن تحاسبهم حتى أصبحت هناك مواجهة مع الجشع وهذه قضية أخلاقية أمام مجتمع فقد ابناؤه الرحمة واستباح القادر فيه الضعيف .. وإذا كان التجار يتنافسون فى رفع الأسعار والتحايل على القوانين فإن هناك هيئات لا تتردد فى أن تمارس نفس الأساليب .. ماذا يعنى أن ترفع نوادي مصر العريقة رسوم الاشتراك فيها للأعضاء الجدد لكي يصبح رسم الاشتراك مليونى جنيه .. أين العدل فى ذلك إن هذه النوادي توسعت وأقامت فروعا لها على مساحات شاسعة من الأراضى حصلت عليها بالمجان من الدولة أو مقابل مبالغ هزيلة, أين دورها الاجتماعى والثقافي والحضاري فى خدمة المجتمع.. إذا كان ذلك استثمارا فهو حق للشعب وينبغى أن ينال نصيبه فيه وألا يقتصر الأمر على مجموعة من البشر أقاموا لأنفسهم أسوارا عالية فى النوادي والمنتجعات .. إن هذا التفاوت الرهيب فى مكونات الشعب المصرى سوف تترتب عليه آثار سيئة .. إن التفاوت فى الأندية والمنتجعات وتكافؤ الفرص والبطالة وهذا الانقسام الطبقى القبيح قد غير الكثير من ثوابت الشخصية المصرية إن أسوار النوادى والمنتجعات لم تقتصر على ذلك ولكن نوعية المدارس والمستشفيات والجامعات والأرقام المخيفة التى يدفعها الآباء فى التعليم الخاص, كل ذلك وصل بنا إلى مناقشات وخلافات اختلت معها منظومة الأخلاق والقيم.. إن التغيرات التى أصابت وجه مصر الثقافة وشوهت جلاله ورموزه هى التى تركت هذه الظواهر المختلة فى السلوك والحوار والفوارق, بحيث تحولنا إلى مجتمع يحكمه الجشع والرغبة فى الثراء على حساب كل شيء وأى شيء. إن القادر ماليا أو وظيفيا أو اجتماعيا هو الذى يستطيع الآن أن ينتزع لابنائه أرقى المناصب دون مراعاة لمن يستحق ومن لا يستحق, ومنذ اختلت منظومة تكافؤ الفرص اختلت معها أخلاقيات الناس فى السلوك والكفاءة والمسئولية, من يستطيع الآن أن ينافس على وظيفة مرموقة مهما كانت قدراته .. هناك جيل فى مصر الآن ورث وظائفه ونفوذه والطبقة التى ينتمى إليها لفصائل الأبناء.. لا يستطيع أحد الآن أن يحصل على منصب إلا إذا كان وراءه مسئول أو سلطة أو نفوذ, وهنا كان من الضروري أن تتسع المسافة بين من ملكوا كل شىء وبين من حرموا من أى شىء ولم يعد غريبا أن يكون اشتراك النادى فى مصر مليونى جنيه وأن يكون سعر متر المبانى فى العاصمة الجديدة 400 دولار وأن تعرض الشقة فى الإسكندرية بمبلغ 42 مليون جنيه وأن يزداد عدد الضحايا الهاربين فى سفن الموت إلى أوروبا وأن تحصل الراقصة على مليون جنيه فى حفلة عرس وهناك ملايين الشباب يبحثون عن فرصة عمل شريف.. لا أبالغ إذا قلت إنها ليست مسئولية حكومات أو مسئولين كبار ولكن أتضح أن كل شىء الآن يورث ابتداء بالوظائف والمناصب حتى بلا كفاءة وانتهاء بهذا الخلل الاجتماعي الذى تحول إلى كوارث أخلاقية وسلوكية أفقدت المصريين أهم ما فيهم من الثوابت والأخلاق.. لقد حذرت كثيرا فى سنوات مضت من الانقسام الطبقى والتفاوت الرهيب الذى اطاح بنا وبكل ثوابتنا أمام سيطرة المال على كل شىء وهذا الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال, وكنت أتصور أنها مرحلة عابرة, ولكن الأزمة تزداد تعقيدا وتحولت مع الوقت والإهمال إلى سلوكيات وأخلاقيات فاسدة رغم أن الأزمة تحاصرنا..إن قضايا الفساد والرشاوى التى يتم الكشف عنها الآن من خلال الأجهزة الرقابية قد تجاوزت كل الحدود ما بين مسئولين كبار فى مناصب حساسة, وإهدار لقدسية المال العام وهذه كلها تؤكد أننا أمام فساد أخلاقى وسلوكى يتعارض مع كل قيم المجتمع المصرى.. لقد وقفت الدولة بكل مؤسساتها الاقتصادية وحتى الأمنية أمام مجموعة من التجار فى سلعة بسيطة اسمها البطاطس, والقضية فى الأساس تراكمات من اللامبالاة والجشع وقلة الضمير أن يقف المجتمع بالكامل بكل مؤسساته أمام فريق من التجار لا أحد يتصدى له .. وما حدث فى البطاطس حدث قبل ذلك فى أشياء أهم أخطرها الأدوية ومنها السلع الغذائية والعقارات والمستشفيات والوظائف والمدارس والجامعات, ولأننا اخترنا أماكن المتفرجين تحولت القضية إلى أزمة أخلاقية أطاحت بالمجتمع كله أمام أغلبية تبحث عن ملاذ وأقلية أعماها الجشع.. إن إهمال كل هذه التراكمات جعل من المتغيرات الاجتماعية الحادة ظواهر أخلاقية غريبة وشاذة ولأننا أهملنا فى العلاج من البداية أصبحنا الآن نواجه أزمات أكثر تعقيدا.. لقد فرطنا فى صورتنا الحقيقية وكانت دائما صورة مضيئة مشرفة فى الفكر والثقافة والسلوك وحين استبدلنا القيم والأخلاق الرفيعة بسلوكيات هابطة وبذاءات ساقطة كان ولا بد أن يطفح ذلك كله على وجه المجتمع فى صورة تجاوزات شملت كل شىء فى الشارع والأسرة والمدرسة وربما المسجد والكنيسة.. إن الحل يحتاج بعض الوقت وقد يطول لأننا أمام سلوكيات تحولت إلى ظواهر سلبية مريضة ترسخت فى حياة الناس وربما أصبحت أشياء عادية, حين تقرأ صفحات الحوادث وأخبار المواقع والفضائح التى تنشرها كل يوم والناس يتسابقون عليها لابد أن تدرك أن الحل ليس شيئا يسيرا لأن الذى استبدل الورد بالصبار لا بد أن يعرف انه استبدل الطيب بالردئ.. لقد تشابكت الخيوط وأصبح من الصعب بل من المستحيل أن تفصل أسباب البذاءات والشتائم على الشاشات عن أخبار الزواج والطلاق والفضائح على المواقع وألا تفصل ذلك كله عن مجتمع تفاوتت فيه المسافات بين الناس وأصبح فيه من يفتش فى صناديق القمامة عن بقايا الطعام ومن يدفع مليونى جنيه لكى يحصل على عضوية ناد من النوادى .. إن المسافة اتسعت كثيرا بين صناديق القمامة والوافدين إليها وبين أعضاء النادى العريق .. أن أخطر ما فى القضية أنها تحولت من ظواهر اجتماعية فى سلوكيات الناس إلى ميراث ثقافي وأخلاقي لا يليق بوطن جميل اسمه المحروسة..
ويبقى الشعر
لن أقبلَ صمتَكَ بعد اليومْ لن أقبل صمتي عمري قد ضاع على قدميكْ أتأمّل فيكَ وأسمع منك ولا تنطقْ. أطلالي تصرخُ بين يديكْ حَرّكْ شفتيكْ اِنطِقْ كي أنطقْ اصرخْ كي أصرخْ ما زال لساني مصلوباً بين الكلماتْ عارٌ أن تحيا مسجوناً فوق الطرقاتْ عارٌ أن تبقى تمثالاً وصخوراً تحكي ما قد فاتْ عبدوكَ زماناً واتّحدتْ فيكَ الصلواتْ وغدوتَ مزاراً للدنيا خبّرني ماذا قد يحكي، صمتُ الأمواتْ! ماذا في رأسكَ خبّرني! أزمانٌ عبرتْ. وملوكٌ سجدتْ. وعروشٌ سقطتْ وأنا مسجونٌ في صمتكْ أطلالُ العمرِ على وجهي نفسُ الأطلالِ على وجهكْ الكونُ تشكّلَ من زمنٍ في الدنيا موتى. أو أحياءْ لكنكَ شيءٌ أجهلهُ لا حيٌّ أنتَ ولا مَيّتْ وكلانا في الصمتِ سواءْ أَعْلنْ عصيانَكَ. لم أعرف لغةَ العصيانْ فأنا إنسان يهزمني قهرُ الإنسانْ وأراكَ الحاضرَ والماضي وأراكَ الكُفرَ مع الإيمانْ أَهربُ فأراكَ على وجهي وأراكَ القيدَ يمزّقني وأراكَ القاضيَ. والسجّانْ اِنطقْ كي أنطقْ أصحيحٌ أنكَ في يومٍ طفتَ الآفاقْ وأخذتَ تدور على الدنيا وأخذتَ تغوصُ مع الأعماقْ تبحث عن سرّ الأرضِ وسرِّ الخلقِ وسرّ الحبِّ وسرِّ الدمعِة والأشواقْ وعرفتَ السرَّ ولم تنطقْ؟ ماذا في قلبكَ؟ خبّرني!. ماذا أخفيتْ؟ هل كنتَ مليكاً وطغيتْ هل كنتَ تقيّاً وعصيتْ رجموكَ جهاراً صلبوكَ لتبقى تذكاراً قل لي من أنتْ؟ دعني كي أدخلَ في رأسكْ ويلي من صمتي!. من صمتكْ! سأحطِّمُ رأسكَ كي تنطقْ سأهشّمُ صمتَكَ كي أنطقْ! أحجارُكَ صوتٌ يتوارى يتساقطُ مني في الأعماقْ والدمعةُ في قلبي نارٌ تشتعل حريقاً في الأحداقْ رجلُ البوليسِ يقيُّدني والناسُ تصيحْ: هذا المجنونْ حطَّمَ تمثالَ أبي الهولْ لم أنطق شيئاً بالمرّه ماذا. سأقولْ؟ ماذا سأقولْ!
«قصيدة «وكلانا فى الصمت سجين» سنة 1986» لمزيد من مقالات يكتبها فاروق جويدة