"إنفوجراف".. نتائج الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للحوار الاجتماعي لمناقشة مشروع قانون العمل    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الأسواق.. عيار 21 بكام    أسعار العدس اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الأسواق    من نوع الأرفد، المقاومة العراقية تستهدف أم الرشراش بطائرتين مسيرتين    سي إن إن: إسرائيل حشدت قوات كافية لتوغل واسع النطاق في رفح    ضابط استخبارات أمريكي يعلن استقالته احتجاجا على دعم بلاده لإسرائيل خلال حرب غزة    تعرف على ترتيب هدافي دوري روشن السعودي قبل الجولة 32    ميدو: أوباما مفتاح فوز الزمالك بكأس الكونفدرالية    كشف تفاصيل حادثة التعدي على سيدة التجمع في أوبر: شقيقتها تكشف الحقائق المروعة    «الأرصاد»: طقس اليوم حار على القاهرة والمحافظات    شك في وجود علاقة مع زوجته.. الحكم على المتهمين ب قتل شخص ببورسعيد    ل برج الحمل والقوس والأسد.. ماذا يخبئ مايو 2024 لمواليد الأبراج النارية (التفاصيل)    هيئة الدواء المصرية تحذر من أدوية مغشوشة وتطالب بسحبها من الأسواق    تباين أداء مؤشرات الأسهم اليابانية في الجلسة الصباحية    كندا تفتح أبوابها للعمال المصريين.. التأشيرة مجانا والتقديم ينتهي خلال أيام.. عاجل    مصرع 12 شخصا وإصابة 60 آخرين في سقوط لوحة إعلانية ضخمة بالهند (فيديو)    حفل عشاء لجنة تحكيم الدورة 77 لمهرجان كان السينمائي (صور)    ما مواقيت الحج الزمانية؟.. «البحوث الإسلامية» يوضح    لماذا تحولت المواجهة الإيرانية الإسرائيلية إلى «نكتة سياسية»؟    طريقة التقديم في معهد معاوني الأمن 2024.. الموعد والشروط اللازمة ومزايا المقبولين    حكم الشرع في زيارة الأضرحة وهل الأمر بدعة.. أزهري يجيب    عمرو أديب ل عالم أزهري: هل ينفع نأخد ديننا من إبراهيم عيسى؟    غرفة صناعة الدواء: نقص الأدوية بالسوق سينتهي خلال 3 أسابيع    مسؤول أمريكي: بايدن لا يرى أن إسرائيل ستحقق نصرا كاملا بغزة    لهواة الغوص، سلطنة عمان تدشن متحفًا تحت الماء (فيديو)    عصابة التهريب تقتل شابا بالرصاص أثناء سفره بطريقة غير شرعية    بديوي: إنشاء أول مصنع لإنتاج الإيثانول من البجاس صديق للبيئة    وزير الزراعة: 300 ألف طن زيادة بالصادرات حتى الأن.. واعتبارات دولية وراء ارتفاع الأسعار    الأوبرا تختتم عروض «الجمال النائم» على المسرح الكبير    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الدوري الإسباني والقنوات الناقلة    فرج عامر: الحكام تعاني من الضغوط النفسية.. وتصريحات حسام حسن صحيحة    هل يجوز للزوجة الحج حتى لو زوجها رافض؟ الإفتاء تجيب    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. دار الإفتاء تجيب    وزير الإسكان العماني يلتقى هشام طلعت مصطفى    جوتيريش يعرب عن حزنه العميق لمقتل موظف أممي بغزة    طريقة عمل عيش الشوفان، في البيت بأقل التكاليف    رئيس شعبة الأدوية: احنا بنخسر في تصنيع الدواء.. والإنتاج قل لهذا السبب    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام إجازة عيد الأضحى المبارك في مصر بعد ضم وقفة عرفات    سيات ليون تنطلق بتجهيزات إضافية ومنظومة هجينة جديدة    "الناس مرعوبة".. عمرو أديب عن محاولة إعتداء سائق أوبر على سيدة التجمع    في عيد استشهادهم .. تعرف علي سيرة الأم دولاجي وأولادها الأربعة    لطفي لبيب: عادل إمام لن يتكرر مرة أخرى    سلوى محمد علي تكشف نتائج تقديمها شخصية الخالة خيرية ب«عالم سمسم»    «يحتاج لجراحة عاجلة».. مدحت شلبي يفجر مفاجأة مدوية بشأن لاعب كبير بالمنتخب والمحترفين    تفحم 4 سيارات فى حريق جراج محرم بك وسط الإسكندرية    سعر البصل والطماطم والخضروات في الأسواق اليوم الثلاثاء 14 مايو 2024    ارتفاع جديد بسعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 14 مايو 2024    إبراهيم حسن يكشف حقيقة تصريحات شقيقه بأن الدوري لايوجد به لاعب يصلح للمنتخب    ميدو: هذا الشخص يستطيع حل أزمة الشحات والشيبي    «محبطة وغير مقبولة».. نجم الأهلي السابق ينتقد تصريحات حسام حسن    فريدة سيف النصر: «فيه شيوخ بتحرم الفن وفي نفس الوقت بينتجوا أفلام ومسلسلات»    رئيس شعبة الأدوية: هناك طلبات بتحريك أسعار 1000 نوع دواء    رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية: نقوم باختبار البرامج الدراسية التي يحتاجها سوق العمل    فرنسا: الادعاء يطالب بتوقيع عقوبات بالسجن في حادث سكة حديد مميت عام 2015    أطفال مستشفى المقاطعة المركزى يستغيثون برئيس الوزراء باستثناء المستشفى من انقطاع الكهرباء    «أخي جاوز الظالمون المدى».. غنوا من أجل فلسطين وساندوا القضية    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك وتمتد فيه عافيتك    إبراهيم عيسى: الدولة بأكملها تتفق على حياة سعيدة للمواطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
ستون عاما من الثقافة والاستنارة
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 11 - 2018

لا أعتز فى حياتى إلا بأمرين؛ أولهما أننى أستاذ جامعى لا أزال أعمل فى جامعة القاهرة منذ ما يزيد عن نصف قرن بدأت منذ عام 1966 ولا تزال مستمرة إلى اليوم، أما الأمر الثانى فهو أننى عملت فى وزارة الثقافة لما يزيد عن ثمانية عشر عاما، قضيت منها خمسة عشر عاما أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة، وخلال هذه السنوات أنشأت المركز القومى للترجمة الذى عملت مديرا له لمدة ثلاث سنوات قبل أن أستقيل من عملى كوزير للثقافة بعد حوالى أسبوع أو تسعة أيام إذا شئت التحديد. ولكننى عندما أسترجع سنوات عمرى كلها، أجدنى لا أزال أفخر بعملى الجامعى أولا وعملى فى وزارة الثقافة ثانيا. ........................
وأظن أن السنوات التى قضيتها فى وزارة الثقافة، وكانت من أهم سنوات التحول فى مصر، هى التى جعلتنى مشدودا إلى العمل الثقافى، مرتبطا به، مفكرا فيه تخطيطا وتنفيذا وإستراتيجية، وكنت ولا أزال أرى أن أهمية الثقافة وقضيتها هى قضية أمن قومى بالمعنى الحقيقى لا المجازى، فأنا من الذين لا يزالون يفهمون الثقافة بأنها لا تقل فى الأهمية بالنسبة للمجتمع المصرى وحماية أمنه الداخلى ودعم علاقاته الخارجية عن أهمية الدور الذى تلعبه وزارات الدفاع والشرطة والخارجية على السواء. فالثقافة هى الجامع الناظم لأبناء الوطن، وهى القوة الخلاقة التى تدفعهم إلى صنع مستقبل أفضل، وعلاقات متبادلة الفاعلية فى ثقافة تنوع خلاق، على مستوى الكرة الأرضية، فى متواليات التطور والتقدم التى لا تتوقف ولا تتراجع إلا فى فترات الانتكاس، ولكنها سرعان ما تعاود الحركة إلى الأمام مضيفة أمجاد الحاضر إلى إنجازات الماضى، واصلة بينهما بما يبشر بأحلام الغد الفتىّ الذى يحمل النجمتين الوضاءتين بين ثناياه: الحرية والعدل. هذا ما تعلمته من أساتذتى وما أحاول دائما أن أعلمه لطلابى.
ولذلك سعدت كل السعادة عندما تلقيت دعوة لحضور حفل افتتاح الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر وزراء الثقافة فى الوطن العربى، فى اجتماعهم الذى دار حول «المشروع الثقافى العربى أمام التحديات الراهنة»، وذلك يوم الأحد الموافق الرابع عشر من أكتوبر 2018، فى المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية. وكانت الدعوة موجهة من الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، ورئيس الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية فى الوطن العربى.
فذهبت إلى الحفل شاعرا بالفرحة بمرور ستين عاما على الوزارة التى أنتسب إليها، وعملت فيها ما يزيد على ثمانية عشر عاما من سنوات عمرى الذى تجاوز الرابعة والسبعين. وعندما وصلت إلى قاعة المسرح الكبير، وجدت على الكرسى المخصص لى كتيبا بعنوان: «صفحات من تاريخ وزارة الثقافة» وتحته فى مربع بارز الرقم (60)، وعنوان فرعى: «سنوات التأسيس». وطبيعى أن يكون على الغلاف صورة الدكتور ثروت عكاشة، أول وأهم وزير للثقافة فى تاريخ الثقافة المصرية الحديثة والمعاصرة.
والحق أن الدكتور ثروت عكاشة – رحمة الله عليه- هو المؤسس الحقيقى لوزارة الثقافة التى لا تزال تسير إلى الآن على الإستراتيﭽية التى وضعها وتأثر بها العمل الثقافى على امتداد ستين عاما، وذلك فى الفترتين اللتين عمل فيهما وزيرا للثقافة فى مصر. وكانت الفترة الأولى ابتداء من 7 أكتوبر1958 إلى 27 سبتمبر 1962، أما الفترة الثانية فقد امتدت منذ سبتمبر 1966 إلى 18 نوفمبر 1970، أى بعد وفاة جمال عبد الناصر بحوالى شهرين فحسب، حيث تشكلت وزارة جديدة، عمل فيها بدر الدين أبو غازى، وزيرا للثقافة من 18 نوفمبر 1970 إلى 14 مايو 1971. وبعدها جاء عدد من الوزراء لم يبق منهم من له أثر كبير فى السياسات الثقافية أو الإنجازات المادية، إلا فاروق حسنى، تلميذ الدكتور ثروت عكاشة، الذى استمر وزيرا للثقافة ابتداء من الثانى عشر من أكتوبر 1987 إلى الثامن والعشرين من يناير 2011. وهو الوزير الوحيد الذى اتيح له من الزمن ما حقق فيه من الإنجازات ما كان بمثابة إضافة حقيقية لما صنعه ثروت عكاشة، ابتداء من التخطيط والأهداف، وانتهاء بالمنجزات المادية الملموسة على أرض الواقع. أما بعد ذلك فقد تتابع عدد من الوزراء لا أعتقد أنه قد اتيح لواحد منهم الزمن ما يكفى لكى ينجز ما يطمح إليه، أو ما كان يخطط له. فقد اختلطت الأمور ودخلنا فيما أسميناه خطأ ب «الربيع العربى» الذى لم يكن سوى خريف عاصف كاد يقضى على الأخضر واليابس، خصوصا بعد أن سيطرت الجماعات الإسلامية التى كانت أكثر المجموعات السياسية تنظيما واستعدادا للقفز على السلطة، فى ظل فراغ سياسى وتخبط اقتصادى، لم ينجنا منه إلا بداية واعدة نرجو لها أن تحقق أحلامنا الحقيقية فى دولة مدنية ديموقراطية حديثة، تتجسد بها شعارات 25 يناير 2011، مضافا إليها شعارات 30 يونيو 2013 عن الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الوطنية والإنسانية. وهى أحلام لا يمكن لها أن تلامس أرض الواقع وأن تمضى فيه، إلا إذا استعدنا الإستراتيﭽية الثقافية التى وضع أسسها الأولى ثروت عكاشة فى سياسيات ثقافية لدولة مدنية حديثة، كانت تعبيرا عن مطامح جمال عبد الناصر الأساسية وجيله الثائر فى أحلامهم بتحقيق العدالة الاجتماعية والثقافية فى آن، جنبا إلى جنب حرية الوطن واستقلال إرادته وحماية حقوق الإنسان الكريم على نفسه وعلى دولته فى آن.
وقد حدثنا المرحوم ثروت عكاشة فى مذكراته التى كتبها بعنوان: «مذكراتى فى السياسة والثقافة» التى ظهرت طبعتها الأولى عام 1987، عن اهتمام ثورة يوليو 1952 بالثقافة منذ بدايتها الأولى، وكيف أنها أصدرت فى الخامس والعشرين من يناير 1956 قانونا بإنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، فى شكل هيئة مستقلة أُلحقت بمجلس الوزراء، وأوكلت إليها مهمة تنسيق جهود الهيئات الحكومية وغير الحكومية العاملة فى ميادين الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وربط هذه الجهود بعضها بالبعض، وابتكار وسائل تشجيع العاملين فى هذه الميادين، والبحث عن الوسائل التى تؤدى إلى تنشئة أجيال من مبدعى الآداب والفنون، يستشعرون الحاجة إلى إبراز الطابع الوطنى فى الإنتاج الفكرى المصرى بشتى ألوانه، ويعملون على التقارب فى الثقافة والذوق الفنى بين المواطنين، وذلك بما يتيح للأمة أن تسير موحدة فى طريق التقدم، محتفظة بشخصيتها وطابعها الحضارى المائز. وقد عهد القانون برئاسة المجلس إلى وزير التربية والتعليم، وتطورت تبعية المجلس على مدى الأيام إلى أن صار جزءا من وزارة الثقافة. وبعد ذلك أقامت حكومة الثورة وزارة الإرشاد القومى والتى جعلت بين مهامها بعض الشؤون الثقافية المحدودة لا سيما فى مجال الفنون.
وفى عام 1958 نشأت أول وزارة للثقافة فى مصر بل فى الوطن العربى كله. وكان هذا الإنشاء إيذانا بإقدام الحكومة (المنبثقة عن ثورة يوليو عام 1952) على بذل جهد واعٍ ومخطط من أجل تنظيم العلاقة بين الدولة وجماعات المثقفين، واستثمار الثقافة والمثقفين فى إثراء الإنجازات المادية والمعنوية للثقافة بأبعادها السياسية والاجتماعية، فى صنع مستقبل واعد لثقافة وطنية وفنية، تبشر بالمستقبل الذى يتطلع إليه الوطن المصرى الذى أصبح جزءا من الوطن العربى الأكبر. وكان الدافع المباشر إلى هذا، أن وزارة الإرشاد القومى- رغم انحسار وظيفتها الأولى فى الدعوة لمبادئ الثورة والتعريف ببرامجها واتجاهاتها الاجتماعية والثقافية - قد مهدت الطريق حين أضافت إلى مهامها الإعلامية مهمة ثقافية فنية حملت من أجلها فيما بعد اسم «وزارة الثقافة والإرشاد القومى» فى 22 فبراير 1958، فأنشأت مصلحة الفنون، وإدارة للثقافة والنشر، ومركزا للفنون الشعبية، وبرنامجا إذاعيا على موجة خاصة سمّى «البرنامج الثانى» يهدف إلى الارتفاع بذوق الجماهير فى مجالات الأدب والفن والموسيقى الرفيعة. وكانت مدة إرساله ساعتين كل ليلة ثم امتدت إلى ثلاث ساعات. وقد كان للعالم الفنان الدكتور حسين فوزى فضل المشاركة بالجهد الأساسى والواعى فى هذا العمل الطليعى الجليل.
ويمضى ثروت عكاشة قائلا فى مذكراته: «بإنه يؤكد إيمانه بأن أية إنجازات علمية أو عملية، فكرية أو فنية، لا يمكن أن تولد من فراغ، وإنما هى حصيلة أفكار وآمال وجهود أجيال من المثقفين على مر السنين». وفى هذه الجملة وحدها ما يدل على دين ثروت عكاشة وأبناء جيله من أمثال عبد الناصر وأصدقائهما الحميمين الذين كانوا يداومون على الذهاب إلى منزل أسرة ثروت عكاشة (أعنى منزل والده محمود باشا عكاشة، مدير عام سلاح حرس الحدود وحاكم الصحراء الغربية) لكى يستمعوا إلى روائع السيمفونيات العالمية لكبار موسيقِىّ العالم. وكانت تدور فيما بينهم مجادلات ونقاشات حول الأعمال الثقافية الرفيعة أدبيا وفنيا فى العالم المتقدم كله. وكانت هذه اللقاءات سببا من أسباب حبهم واقترابهم الحميم من الثقافة والفنون، خصوصا الموسيقى فقد كانوا لا يزالون جميعا، من حيث هم شباب يافع، يعيشون فى ظلال عمالقة الثقافة والفن من أبناء الليبرالية المصرية فى عصرها الذهبى الذى امتد طوال فترة بين الحربين العالميتين اللتين كان من نتائجهما تكوين الوعى الثقافى والفنى للطليعة الثورية التى صنعت ثورة يوليو 52 على هدى من ثقافة الليبرالية المصرية العظيمة، وإن لم يخلُ الأمر من تأثر بعضهم بفكر الإخوان المسلمين الذى كان قد أخذ ينتشر بدعم الاستعمار البريطانى من ناحية، ودعم السلفية الوهابية التى كان لها توابعها فى الثقافة المصرية فى ذلك الوقت من ناحية موازية، وذلك بالقدر الذى كانت جماعة الإخوان المسلمين صناعة استعمارية بريطانية خالصة، خلطت الدين بالسياسة، بل جعلت السياسة والأحلام الوطنية فى الاستقلال، قناعا سياسيا تغطى به أهواءها فى تشكيل أصولية سلفية دينية جديدة، تسعى وراء حلم استعادة الخلافة الإسلامية التى كانت قد سقطت فى إسطنبول عام 1923 مع صعود كمال أتاتورك، وتأسيس دولة علمانية جديدة، تستند إلى الدستور والقانون شأنها فى ذلك شأن كل الدول الأوربية المجاورة لها.
وهكذا وجد أبناء الجيل الجديد من العسكريين الذين كان عبد الناصر وثروت عكاشة وخالد محيى الدين فى الطليعة الثقافية منه، أنفسهم متشبعين بثقافة الأجيال الليبرالية التى تعلموا عليها واستمروا فى القراءة لها ولأجيالها التى كانت أساتذة لهم بأكثر من معنى. وبقدر ما ورث هؤلاء عن الجيل الليبرالى الذى تأثروا به وعيه الثقافى والفنى، فقد وجدوا من واجبهم أن يضيفوا إلى ما أخذوه ما يمكن أن يبنوا عليه. هكذا كان قانون الإصلاح الزراعى تعبيرا عن التواصل بين أفكارهم الاجتماعية الجديدة، والتواصل الثقافى بينهم والجيل الليبرالى الذى نادى بضرورة الإصلاح الزراعى مثل: محمد خطاب، وإبراهيم شكرى، وميريت غالى، فى البرلمان قبل سنوات عديدة من إعلان قانون الإصلاح الزراعى بعد قيام ثورة يوليو 52 بشهر ونصف تقريبا. وبالقدر نفسه كان الحديث عند هذه الطليعة الصاعدة من الضباط عن العدل الاجتماعى مقترنا بعدالة توزيع العلم والمعرفة تواصلا مع الجيل الليبرالى الذى دعا علم من أعلامه، هو طه حسين إلى أن يكون التعليم – كالثقافة - حقا مجانيا لكل مواطن كالماء والهواء فى حياة كل إنسان. وفى الوقت نفسه كان تأميم قناة السويس فى يوليو 1956 نتيجة الجهود العلمية لكل من حسن حسنى الذى أجيزت أطروحته لدرجة الدكتوراه عن قناة السويس (من منظور وطنى مصرى) عام 1933 من جامعة مونبلييه فى فرنسا. وهى البداية التى انطلق منها مصطفى الحفناوى وأضاف إليها الكثير، تعميقا وتوسيعا، أطروحته لدرجة الدكتوراه من الجامعة نفسها فى يوليو 1951، وهى الأطروحة التى عمل على نشرها باللغة العربية إلى أن أكملها كتابا فى أربعة أجزاء قرأها جمال عبد الناصر وأتخذها مرجعا وسندا عندما أعلن عن تأميم القناة فى يوليو 1956.
هكذا كانت الأحلام الليبرالية الوطنية ميراثا خلاقا، دفع طليعة ثورة يوليو وعلى رأسها جمال عبد الناصر إلى الكثير من الخطوات التى حققتها ثورة يوليو 1952 بالتدريج. ومن هذه الأحلام كان إنشاء أول وزارة للثقافة بميراث ليبرالى فى ذهن ثروت عكاشة، الذى حقق هذا الحلم سنة 1958.
هكذا يمكن أن نقول أن عدد من أحلام الليبرالية المصرية كان عنصرا فاعلا فى تكوين الطليعة الثقافية لقادة ثورة يوليو 1952، ابتداء من جمال عبد الناصر الزعيم الوطنى وليس انتهاء بثروت عكاشة المؤسس الفعلى لوزارة الثقافة سنة 1958، أى بعد عامين فحسب من تأميم قناة السويس. ولذلك كان من الطبيعى أن تتفاعل الأفكار الليبرالية فى وعى ثروت عكاشة الذى انطوى تكوينه الثقافى على أصول ليبرالية مؤثرة، كانت هى الدافعة له، عندما تولى أعباء وزارة الثقافة وحدها من نوفمبر 1958 إلى سبتمبر1962. فقد وجد مناخا مهيئا بفضل اهتمام أهل العلم والفن والثقافة، وعلى رأسهم أستاذه النابه، فتحى رضوان «الذى حققت وزارة الثقافة والإرشاد القومى فى عهده إنجازات فنية عظيمة فيها الجدة، والابتكار، وأرست أسسا للفنون على قاعدة صحيحة بالرغم من قصر المدة التى تولى خلالها مسؤوليتها الجديدة». فيما يقول ثروت عكاشة فى مذكراته التى أشرت إليها.
ومن المؤكد أن هذه العبارات تستحق التقدير لصاحبها على وفائه لأساتذته غير المباشرين من الجيل الليبرالى الذى أثر تأثيرات مباشرة وغير مباشرة فى زملائه من الضباط الأحرار الذين أخذوا على عاتقهم تخليص مصر من شرور العهد الملكى الفاسد بكل أخطائه وسلبياته، ولذلك كان من الطبيعى أن تختار الطليعة المثقفة من ضباط يوليو (وعلى رأسهم جمال عبد الناصر وثروت عكاشة) فتحى رضوان، وزيرا للإرشاد القومى والثقافة فى عهدها الجديد، وأن يعمل فتحى رضوان وزيرا لما نسميه «الإعلام» و«الثقافة» فى بدايات عهد ثورة 23 يوليو، فقد كان عضوا مؤسسا فى حزب «مصر الفتاة» مع أحمد حسين، وكان قد أصدر جريدة «اللواء الجديد» صوتا ناطقا للحزب الوطنى إلى أن توقف هذا الحزب بعد قيام الثورة بحل الأحزاب القديمة. وكان فتحى رضوان قد تعرض للاعتقال كثيرا، قبل قيام الثورة، لاعتراضه على تصرفات الملك فاروق، واعتراضه على معاهدة حزب الوفد مع الإنجليز سنة 1936. وقد شارك فى العمل السياسى مع نور الدين طراف وغيره من المنتسبين مثله إلى العصر الليبرالى، خصوصا المؤمنين منهم بمبادئ الحرية والديموقراطية. وقد ظل وزيرا للإرشاد القومى والثقافة لمدة تصل إلى اثنين وسبعين شهرا، كتب ذكرياته عنها فى كتاب بعنوان: «اثنان وسبعون شهرا مع عبد الناصر»، مع كتاب آخر عن «أسرار حكومة يوليو» التى كان معاصرا لها ومشاركا فيها، فضلا عن حديثه المتعاطف مع «حركة الوحدة فى الوطن العربى»، وهو كتابه الآخر الذى جعله متعاطفا مع قيادات يوليو 52، وقريبا منها – فى حلم الوحدة القومية - إلى أن توفى فى الثانى من أكتوبر عام 1988 مرضيا عنه من الثورة وأبنائها.
وهذا هو سبب اعتراف ثروت عكاشة فى مذكراته بفضل فتحى رضوان الذى حقق فى عهده الوزارى القصير «إنجازات فنية عظيمة فيها الجدة والابتكار، وأرست أسسا للفنون على قاعدة صحيحة». وهى القاعدة التى انطلق من خلالها ثروت عكاشة الذى ما إن مضى فى مهمته حتى تبين له من الدراسات الأولى أن عليه أن يبنى وزارة جديدة، وأن يؤسس تقاليد جديدة فى مجال الثقافة، يستكمل بها ما سبق إليه ويضيف إليه ما يتناسب ومطامح أبناء جيله فى تحقيق العدل الاجتماعى والثقافى وبناء ثقافة وطنية عربية الاتجاه، إنسانية المطامح. فى الوقت نفسه. هكذا كان على ثروت عكاشة أن يرتبط بالمثقفين من أساتذته والمعاصرين له لكى ينشئ معهم وبهم ما يحقق آمال وأحلام كل المشابهين له من مثقفى ضباط ثورة يوليو 52 من مطامح وآمال، فكان لا بد أن يفصل أولا بين الإعلام والثقافة، وأن يجعل لوزارته اسما محددا يتجسد فيه عمله الحقيقى، وهو الثقافة وليس الإعلام، وأن يؤكد بهذا الاسم دور الدولة من حيث رعايتها للثقافة وفنون الإبداع، وتركيز وزارته فى الوقت نفسه على الكيف الثقافى فى مقابل الكم الإعلامى. ويضيف ثروت عكاشة إلى ذلك قائلا: «ولحسن الحظ كان جمال عبد الناصر معنيا بمسائل الثقافة، حريصا على دعم المشروعات الثقافية، مؤمنا بأن ازدهار الثقافة يؤدى فى مجال الفكر ما يؤديه التصنيع الثقيل فى قطاع الصناعة، شغوفا بأن يرى للقلم رسالة فى شحذ وجدان الأمة لا تقل عن رسالة المدفع فى حماية حدود الوطن، وفى تعانقهما معا ما يتيح للأمة التطور والارتقاء، ولا ننسى أنه للمرة الأولى فى التاريخ المصرى قد أنشأ وزارة للثقافة وأخرى للبحث العلمى أثناء اضطلاع الثورة بأعبائها». وأود لو أضع عشرات الخطوط تحت ما كان يراه عبد الناصر عن أهمية الثقافة، ودور القلم أو الكاتب أو المثقف الحقيقى أو حتى رجل العلم فى انتمائه لوطنه، ذلك الدور الذى لا يقل أهمية عن دور المدفع فى حماية حدود الوطن، وفى تعانقهما معا فى تأسيس ارتقاء الوطن وتطوره. وكذلك أنشأ عبد الناصر للمرة الأولى فى التاريخ المصرى وزارة للبحث العلمى إلى جانب وزارة الثقافة. وجعل لهما معا عيدا للعلم يكرم فيه البارزين من أعلام المثقفين كطه حسين والعقاد والعلماء من نخبة أساتذة العلوم الطبيعية الذين أنشأ لهم «أكاديمية البحث العلمى».
هكذا كان واضحا من بداية الأمر أن الهدف الذى وضعه جمال عبد الناصر لثروت عكاشة، هو رعاية الوجدان القومى وتغذيته وتنميته. وكان هذا الهدف يتحقق عن طريق قصير، هو الرعاية الفورية والمباشرة لما هو متاح من وسائل لإمتاع المواطنين جميعا بالثمار العاجلة للثقافة التى تتنوع بين مسرحية جيدة، وفيلم ممتاز، ولوحة أخاذة، وكتاب ممتع، وبحث لامع، وموسيقى رفيعة، وفنون شعبية، إلى غير ذلك من ثمار الثقافة الوطنية والقومية والعالمية. أما الطريق الطويل، فيهدف إلى تنشئة أجيال تنضج على هذه الثمار سواء خارج الوزارة أو داخلها، بإنشاء المعاهد الفنية لتربية أجيال جديدة من الفنانين المبدعين، فقد كان ثروت عكاشة يدرك أن مهمة الوزارة هى استكشاف المواهب فى كل حقل ورعايتها وتيسير السبيل أمامها للخلق والإبداع. وما كان يمكن تحقيق هذا إلا بإقامة الدولة للمشروعات الثقافية الكبرى التى لا يقوى عليها الأفراد، والتى لا ينبغى أن تترك لآحاد الناس خوفا من أن يستغلوها لأغراضهم السياسية أو الدينية المقنعة بأقنعة السياسة. وهذا هو ما حدث بعد ذلك فى عهد السادات على وجه التحديد، بعد أن تحالف مع جماعات الإسلام السياسى، ووضع يده فى أيديهم. وكان من نتيجة ذلك أن تعملق وجود دور نشر إخوانية وسلفية مدعومة من سلفية إسلام النفط الوهابية. ولا تزال هذه الدور بلاء لم ينته خطره على وعى القارئ الوطنى والقومى على السواء، بل على وعيه الإنسانى وانتمائه للدولة المدنية الديموقراطية الحديثة على وجه التحديد.
هذا الأمر بقدر ما كان يعيه عبد الناصر كان يعيه ثروت عكاشة الذى علمنا أنه لا يمكن انبثاق «أى سياسة ثقافية من أفكار عشوائية أو نزوات فردية عابرة، بل لا بد أن تكون منبثقة من مبادئ راسخة تحدد مسارها وترعاه كما تحدد أهدافها مرحليا وإستراتيﭽيا، على المدى الطويل». بكلمات أخرى كان ثروت عكاشة يعى أنه لا تقدم للثقافة فى الوطن ولا تقدم لأية ثقافة من ثقافات العالم دون ما يسميه «سياسة ثقافية» أو «إطار عام للعمل الثقافى». قد تختلف هذه السياسة الثقافية من بلد إلى بلد ومن قومية إلى قومية أخرى، وعلى أساس هذا الاختلاف تصبح هناك سياسات ثقافية، تتكون من مجموعها ثقافة ما نسميه الآن باسم «ثقافة التنوع الخلاق» على المستوى العالمى كله. ولذلك يؤكد ثروت عكاشة أنه بدون سياسة ثقافية تتبناها الدولة ويدعمها رئيسها وحكومتها بشكل خاص لن تنهض ثقافة الوطن على نحو سليم، ولن تحقق هدفها الوطنى على نحو أدق، «فالسياسة الثقافية ينبغى أن تكون جزءا لا يتجزأ من سياسة التنمية الشاملة تتأثر بها وتؤثر فيها، كما أنها تتأثر بالتطور التكنولوجى للمجتمع وتؤثر فيه، وانطلاقا من هذا المنطلق واستلهاما لروح الثورة حاولنا حصر احتياجات مجتمعنا الثقافية وتبين ما لدينا من إمكانيات مادية وبشرية قادرة على العطاء، وهكذا وبعد دراسة متأنية تجلت لنا احتياجاتنا لاستكمال أجهزتنا الثقافية». (وللمقال بقية)
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.