صحيح أن إشراقات المعرفة تحرر الإنسان من كل معوقات التجدد، إنجازا لسياق تحرر مستمر، هو الرهان الأكبر لحرية الوجود الاجتماعى والفردى والجماعى وازدهاره وتقدمه، لكن الصحيح كذلك أن آليات الاسترصاد والاستدراج شكلت جوهر ممارسات العالم السرى لشبكة القوى الخفية، التى تتسلط على مجتمعاتها، ومجتمعات العالم، استهدافًا لعرقلة إشراقات المعرفة لتصدير الأوهام والتوريطات، والأزمات السياسية والاقتصادية، اغتصابًا للثروات والهيمنة على الأوطان لصالح تلك القوى الخفية التى راحت تقصى منطق العلاقات الأخلاقية المعيارية وتتخطاه إلى منطق العلاقات الإجرائية التى تحقق الربح الفوري، حيث تتولى مؤسسات تلك الشبكة جميع أساليب التلاعب والفساد، التى تناقض منطق الحقوق الإنسانية كافة، لكن دراسات بعض أصحاب الضمائر من المختصين، فضحت ذلك الواقع الخفى وحراسه الذين هيمنوا على العالم من خلال وسائل النشر والإعلام والجامعات، تسييسًا للثقافة، لتعرقل تثقيف السياسة، وقد تبدى بعض من ذلك الفضح المعلن فى كتاب «المال ضد الشعوب»، الصادر عام 2004 المشحون بجهد استقصائى بذله مؤلفه إيرك توسان رئيس منتدى إلغاء ديون العالم الثالث فى أمستردام؛ إذ راح يتعقب ممارسات تلك القوى الخفية، كاشفًا عن دهاليز سياساتها المنفلتة، وما أنتجته من تدهور فى شروط حياة الشعوب، وتهميش العالم الثالث وإقصائه، بإغراقه فى التاريخ الدامى المتواصل للديون، وشتى المشكلات والأزمات التى تخنق بصيرته عن الوعى بضرورة نهضته ليظل رهينًا للاستغلال. إن ما كشفه إريك توسان من البحث المحموم عن الربح على حساب الحقوق قد أصبح الخيار المطلق الحتمى الوحيد لسيادة العالم. لقد اغتصب البحث المحموم عن الربح مملكة المفاهيم والقيم؛ إذ ما يدعو إلى الدهشة ما طرحه الكاتب الأمريكى تيم واينر فى كتابه «إرث الرماد» الصادر عام 2007، الذى يتناول أسرار وكالة الاستخبارات الأمريكية، حيث أورد أن المال أصبح جاذبًا قويًا أنتج نزقًا فى الأدمغة، مما دفع ثلاثة قيادات نافذة من أفضل الضباط, ذاكرًا الأسماء, أن ترتحل عن العمل فى أجهزة رسمية سرية، لتلتحق بالخدمة فى شركات خاصة، مثل بلاك ووتر تحقيقًا للكسب الكبير، وهو الأمر الذى لا يعده الكاتب شيئًا غريبًا فى واشنطن القرن الحادى والعشرين، ويظل الفخ الفاغر فاه يبتلع فيالق من ضباط وكالة الاستخبارات الأمريكية، الذين تركوا وظائفهم فيها للحصول على المال الوافر مقابل بيع خدماتهم الخفية لشركات خاصة، وقد حذا مستخدمون جدد حذوهم فشكلوا, وفق تعبير الكاتب, سلالة جديدة من قطاع طرق مجتمع السلطة والسياسة. واستئناسًا بما نشر من دراسات تستجلى هوية مهام بعض تلك الشركات الخاصة وحقائقها، تبدى وئام أنشطتها مع مهام وكالة الاستخبارات الأمريكية، ففى كتابه: «بلاك ووتر- صعود أقوى جيش مرتزقة فى العالم»، الصادر عام 2007 كشف الكاتب الأمريكى الجنسية ريمى سيكل، عن امتلاك هذه الشركة جيشًا من المرتزقة ينتشر فى تسع دول، منها الولاياتالمتحدة، وعن امتلاكها أسطولاً خاصًا من المروحيات، والمدفعية، ووحدة طائرات تجسس، وعن أنها تعاقدت مع حكومة الولاياتالمتحدة للقيام بعمليات خاصة فى العراق، وأفغانستان ودارفور ومنطقة قزوين وإيران وأيضًا تنفيذها مهام لحساب عواصم بعض الدول، وفى كتاب شبكة كاريل، الصادر عام 2004، اقتحم مؤلفه الصحفى الفرنسى فرانسوا ميسان الخطوط المتشابكة لهذه الشبكة المتعددة الأنشطة، التى تضم شخصيات نافذة كانت تعمل فى وكالة الاستخبارات الأمريكية، ويتستر هدفها بدرع الاقتصاد، بوصفها جهاز تأثير، وآلة مضاربة مالية، ثم تنوعت مجالات أنشطتها لتضم أضخم مجموعة من الشركات المصنعة للسلاح والاتجار به، بدءًا من الدبابات والطائرات الحربية حتى الصواريخ وغيرها، كما تمارس العمل فى مجال النفط، وتستحوذ على عالم المعلوماتية والاتصالات بمختلف أشكالها، وتضطلع بما يعهد إليها من تنفيذ مهام إثارة الفوضى فى بعض دول العالم. ويختتم المؤلف كتابه بأن: السلطة قد سمحت، إن لم نقل شجعت، (البنتاجون) على أن يضع نفسه بين أيدى الشركات الخاصة لصناعة السلاح، إن هذا الانحراف الذى يوحى بما هو أكثر من الخشية على السلام العالمي، من شأنه ألا يترك المواطنين الأمريكيين غير مكترثين بمجريات الأحداث، والدليل على ذلك أن ضباط الجيش الأمريكى أنفسهم يدينون هذا الانزلاق الخطير، إلى درجة أن عددًا كبيرًا يقيمون الدليل على وجود مخاطر حقيقية تهدد مبدأ الديمقراطية فى بلادهم. وفى عام 2011 نشرت جامعة نورث كارولينا الأمريكية كتابًا بعنوان: «تخيل الشرق الأوسط: بناء السياسة الخارجية الأمريكية 1918 1967»، تأليف ماثيو إف.جايكويز، حيث طرح المؤلف فهم الأمريكيين للشرق الأوسط، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى أواخر الستينيات، استنادًا إلى ما طرحه تشكيل شبكة غير رسمية من الباحثين والخبراء ورجال الأعمال والإعلاميين، الذين يلعبون دورًا حاسمًا فى صياغة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وقد تراءى لهذه الشبكة أن الشرق الأوسط محدد ببعض الخصائص التى تصوروها، وأنه لاستمرار حالة الهيمنة الأمريكية لا بد أيضًا من توظيف المعرفة كوسيلة لخدمة تلك الهيمنة وترسيخها؛ لذا صاغوا شرق أوسط متخيلاً هو ما يطلق عليه الشرق الأوسط الجديد، لكن بزوغ القوى القومية فى الشرق الأوسط، أقلقت الولاياتالمتحدة؛ كظهور عبد الناصر- مثلاً- بوصفه مثالاً على جذب الجماهير والتأثير فيها، وما نجم عن ذلك من مواقف مضادة، أصبحت معها مصالح الولاياتالمتحدة معرضة للخطر، وعلى الجانب الآخر فإن عدم اقتدار الولاياتالمتحدة على إنجاز مهمتها بتغيير الشرق الأوسط، استولد قدرًا كبيرًا من الإحباط فى دوائر المتخصصين وصناع السياسة، وفى سياق ذلك صدر تقرير مكتب الاستخبارات والأبحاث التابع لوزارة الخارجية، بعنوان «مقاومة العرب للتحديث»، حيث تضمن ما يلي: ضرورة اجتثاث عروبة العرب وتجريدهم منها، وذلك ما يفضح العلاقة المتناقضة بين إنتاج المعرفة وممارسة سطوة الهيمنة، كما تضمن التقرير أيضًا الإشارة إلى التعارضات بين الفرضيات الأساسية للمؤسسات الحداثية والتقاليد العربية الإسلامية، والحل الذى يطرحونه هو اجتثاث العروبة. ترى كيف تكون حال التطور الذاتى سياسيًا واجتماعيًا، لأى مجتمع فى ظل هذه الخروقات التى يسكنها التسلط والهيمنة، وكل ما هو مضاد للحقوق المشروعة لمواطنى تلك المجتمعات؟ لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى