إذا اعتبرنا أن مصر، عبر تاريخها وجغرافيتها، من القوى المتفوقة فى عالمها، فإنها حقيقة، كما أنها كانت محظوظة، فقد امتلكت فى تاريخها الحديث مفكرين وعلماء وأدباء، عبروا عن مسيرتها وسطروا مساراتها بلغة عالمية، بإنتاج كتب راقية وحرفية، إنتاج يتفوق فى جوهره على كل ما تم تسطيره فى عالمنا المعاصر، وفى كل مكان، وبقى علينا نحن المعاصرين أن نبحث عنه، ونعيد إصداره للأجيال الحالية والمقبلة، لكى نبنى وعيهم وإدراكهم لمعنى مصر والوطن الذى يعيشون فيه، أو يعيش فيهم وبهم. ولذلك، توقفت أمام اختيار منتدى شباب العالم الذى ينطلق بعد أيام فى شرم الشيخ، لكتاب الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، لأحد أفضل مثقفينا الذين تحدثوا عن الهوية، بل هو الأفضل بالفعل، الدكتور مهندس ميلاد حنا (1924-2012)، وهو كاتب وإنسان موهوب، واسع الإطلاع، متعدد المواهب، وكتابه المطروح يعبر عن ذكاء وحنكة لمن اختاره، لأننا نحتاجه اليوم، أكثر من أى شيء آخر، وهو الفكر الذى يجب أن نصدّره إلى عالمنا المعاصر، فى وقت اشتد فيه التطرف والإرهاب والتعصب فى كل مكان حولنا وفى منطقتنا وعالمنا، وقد تعرضت شخصيتنا أو هويتنا للتغييب، إن لم يكن للتشويه، فمصدر للكراهية، فى حين أنها رسالة للحب والتسامح والتعايش، كما أن هذا الكاتب أحد كتابنا الكبار الذين لم يأخذوا حقهم فى البحث والتنقيب عما أنتجوا من أجل مستقبلنا فى كل المجالات العديدة، ونحتاج إلى العودة إليهم، ليس من أجل استرجاع حقوقهم فقط، ولكن من أجلنا أن نتعلم منهم ونتطلع بهم وعبرهم إلى المعرفة والقدرة على ترسيخ شخصيتا وهويتنا الحقيقية. كتاب د.ميلاد حنا حدد الأعمدة السبعة، وأثبتها فى 4 مكونات تاريخية، و3 مكونات جغرافية، والأعمدة الأربعة الأولى هى: الفرعونى، واليونانى - الرومانى، ويتداخل معهما القبطى، وأخيرا العمود الإسلامى أما الأعمدة الجغرافية فهى العروبة، وثقافة المتوسط، والبعد الإفريقى الذى يرى فيه المستقبل. وإذا وضعنا كتاب ميلاد حنا إلى جوار موسوعة جمال حمدان (1928-1993) فيلسوف الجغرافيا فسنعرف هوية مصر حقا، فحمدان كتب عن معشوقته، بشرايينه قبل عقله، فقد خلد بلدنا، وسطر كيف ينهض، ويقوم من جديد، وهو لم يكتب فى الجغرافيا، بل كتب فى علم المكان، ولم يكتب فى التاريخ أو علم الماضى بل علم الزمان. وكلا الكاتبين حدد لنا، سواء فى كتاب الأول أو موسوعة الثاني، كيف نعيد بناء الإنسان المصري، بأن يعلو ويتسامى عن كل متغيرات الحياة، وكيف يتخلص إنساننا من النزوع إلى الغيبيات، وأن يعرف معانى البر والقناعة الإيجابية التى لا تدعو إلى التمرد والثورة على ما هو قائم، بل إلى التطور بجرعات، فتعيش على المدى البعيد. فالمصرى تعلم، عبر تاريخه، أن يكون الشخصية الاجتماعية المنطلقة، وعلمته التجربة الواقعية احترام الواقع، وعدم الانفصال عن هذا الواقع، ومصر، بحكم تاريخها وجغرافيتها، لم تعرف كراهية الأجانب، بحكم موقعها وسط الدنيا. وإذا كان حمدان وحنا رحلا عن دنيانا متشائمين من مستقبل مصر، فإنهما كانا يعترفان بغنى وطنهما، وبثقافته الرفيعة القادرة على استيعاب العصر بل العالم كله. فحمدان كان قد قال إن الاختيار أمام مصر أصبح صعبا، لكننا نقول له إنه عندما رفض المصريون الأسوأ فى 2013 فتحوا الطريق أمام وطنهم للعبور، ليكون واسطة العقد فى عالمنا المعاصر بين القوى الجديدة البازغة (أمريكا وروسيا والصين وأوروبا)، وأن مصر استطاعت بالسلام أن تضع العالم والعدو أمام متغيرات صعبة، وأن تعود لتصبح أكبر من أى دولة أخرى فى منطقتنا، كما أن مصر بعودة اهتماماتها بالزراعة، لن تتحول إلى مقبرة بحجم الدولة كما وصف حمدان، وأن الزراعة الجديدة والاهتمام بإفريقيا والرى سيغير بيئة وجغرافية مصر المرهقة والهشة، فهى لا تتحمل العبث، ولأننا نرى عمليات الإصلاح الجارية فى تقنين الأراضى بحماية الدولة من الرأسمالية المسعورة أو الهوجاء التى هى مقتل مصر الطبيعية، ويبدو لى أن من يديرون مصر الآن قرأوا كتابات حمدان وحنا، واستوعبوا ما فيها، وأنهم يبنون مصر على أسس من العلم والتفكير العميق، ولأن مصر أقدم وأعرق دولة فى الجغرافيا السياسية، ولأن مصر السياسية، هى ببساطة، من خلق الجغرافيا الطبيعية، وكما قال ميلاد حنا فإن غنى مصر بالانتماءات التى تراكمت عبر الزمان، وبتأثير المكان، فقد عبرت فى 2013 الحكم الدينى المقيت، وتعترف أن الإنسان المصرى الحديث هو عربى من حيث اللغة والثقافة، لكنه لا يستطيع أن يزيح من أعماقه تراثه الفرعونى، ثم التأثيرات اليونانية التى فرضت نفسها فى تاريخه، ثم التاريخ القبطى، وبدخول الإسلام جددت هويتها الأخيرة، ولا يمكن اختزال هويتنا فى مرحلة معينة، كما أن ثقافة المتوسط (تشملنا) كما أن بعدنا الإفريقى هو مستقبلنا باختصار. تحية لمن اختاروا الكتاب، ودعوا للاهتمام به وبالموسوعة، حتى تتكامل لنا معرفتنا بمصريتنا، وإدراكنا لنوعية الوطن الذى نبنيه، لأنه لم يمكن أن يسقط أو يغيب أو يهمش مرة أخرى، لأنه ليس مهما لأبنائه وحدهم، بل هو مهم للعالم والإنسانية كلها، ومعنى غياب مصر أو تهميشها أن الحضارة الإنسانية المعاصرة تتجه إلى الأفول والضياع، تلك رسالة وطن مهمة للعالم كله، ولا غنى عنها للمصريين ومنطقتهم. لمزيد من مقالات أسامة سرايا