احدق في شاشة مزدحمة. ارد علي رسائل في بريدي الالكتروني ظلت بلا رد لأطول مما ينبغي, ثم انشغل باعادة كتابة موضوعي الجديد للجريدة للمرة الثانية, وافكر أنه بعد الاضافات قد صار هو الآخر أطول مما ينبغي. من ذا الذي اخترع ما ينبغي؟ هل كان ينبغي ان ترحل الجدة الكبري؟ هل كان ينبغي ان ترحل قبلها بعامين الا ليالي عشرا الجدة الصغري؟ كنت قد تأهبت للخبر. قالت لي امي ان الحمي قد اصابت الجدة الكبري وان تلك غالبا هي سكرات الموت. في كل مرة يفاجئني الموت دون ان انتظره او استعد له: أبي, جدتي, صديقتي هايدي ذات السبعة والعشرين ربيعا التي ماتت سعيدة في فراشها دون سابق مرض, صديقنا احمد الذي مات في سن وظروف مشابهة لهايدي بدون مقدمات. هذه المرة انتظرت الموت. حين اسلمت الجدة الكبري الروح دون طول معاناة انشغل الجميع بالترتيبات وانشغلت انا في اعادة ضبط مواعيدي لاكون حاضرة في موعد العزاء. لم افكر كثيرا في الأمر. توتا سعاد شارفت التسعين من العمر-يقولون عاشت أطول مما ينبغي- ورحيلها يجب ان يكون امرا طبيعيا ومتوقعا. كانت تكبر جدتي بما يناهز عشر سنوات, هي خالة امي فحسب, لكنها امتلكت مكانة روحية توارثناها في عائلتها بصفتها الشقيقة الكبري التي كانت في السابعة عشرة حين حلت محل الأم لأشقائها الستة. كانت جدتي تناديها أبلة سعاد حتي بعد ان تجاوزت كلتاهما السبعين من العمر. هل كان ينبغي ان يرحل الراحلون وابقي انا هنا ادير معاركي مع طواحين الهواء؟ لا اعرف محددات لهذا الذي ينبغي, ولكنني اظن ان الموضوع الجديد طويل ومعقد ويفتقد الروح بشكل يشبه حياتي ربما؟ لم تكن حياة الجدات كذلك. كانتا تشبهان نجمات السينما في شبابهما المتجدد واناقتهما الدائمة. لا تحملان هموما ولا تتركان الحزن يحل حيث تقيمان. تضحكان طوال الوقت وتملآن الأمكنة بهجة وغناء وطعاما. كانتا تتنافسان احيانا, بل وتتصارعان. جدتي تقول ان ابلة سعاد لا تتقن صنع كعك العيد ابدا. تتندر علي الغريبة التي تعدها ناشفة كحجر اذا رميت حباتها الي حائط ارتدت اليك. تفخر بوصفات الكعك والغريبة الخاصة بها والتي لا تخيب ابدا. جدتي كانت امهر في اعداد الطعام. أبلة سعاد كانت اقدر علي حفظ كل الاغاني الكلثومية الطويلة التي قد تخطيء اختها بعض سطورها. كانتا تتشاجران وتتخاصمان ثم تنسيان لماذا كان خصامهما, فنضحك جميعا ثم نستأنف التنافس في مجالات بهجتنا. علام التنافس الآن؟ لا اعرف بالضبط ولا اهتم حقيقة. كل ما اعرفه ان الحياة جافة جدا بعيدا عن تنافس الجدات في البهجة وحكاياتهن التي تطول دون ان نملها وذلك الشعور بالأمان المطلق في وجودهن. لا اذكر متي كانت آخر مرة زرت فيها الجدة الكبري. بعد رحيل جدتي, فجعت أبلة سعاد واصابتها شيخوخة لم تصبها من قبل, انتابها ذلك الشعور بانها عاشت اطول مما ينبغي حين سبقتها صغري الشقيقات ورحلت, عزفت عن الكلام وضاقت بالزيارات, ولكنها ظلت في عزلتها الاختيارية تغني احيانا مقاطع من اغانيها المفضلة. كل منا- نحن الابناء والاحفاد- استأنف حياته كما ينبغي بعد رحيل جدتي المفاجئ ثم تلاحقت الاحداث وتباعدت الزيارات ونسينا ان الجدة الكبري صارت تشتاق للرحيل. انهيت الموضوع وارسلته للجريدة وانا غير مقتنعة تماما. اتممت استعدادات العزاء الروتينية دون ان اكون مستعدة تماما. في الجمع العائلي الموسع الذي لاحظت انه لم يلتئم له شمل منذ ان اجتمع في سرادق عزاء جدتي, وبينما الجميع يتراشقون الآراء السياسية الحادة, انسلخت عنهم وسافرت الي تلك الاركان الحميمية في منازل الجدات: بين سحر المطابخ ورحابة البلكونات. كيف كانت احضانهن تضم كل هؤلاء دون ان تضيق بأيهم!؟ الآن منازل الجدات ومطابخهن وبلكوناتهن واحضانهن اللاتي هجرنها رويدا رويدا بعيدة جدا عن جمعنا هذا. ترقرقت دموع في عيني فسكت الجمع لحظة عن جدلهم السياسي المحتدم, يقفز السؤال من فم لا اتبين ملامحه: أتبكين!؟ فأرد: توتا سعاد ايضا ماتت