بعد التغييرات التي أجراها السيد رئيس الجمهورية مؤخرا علي قيادات المؤسسة العسكرية , تولد انطباع عام بأن مصر برغم صور المعاناة التي تمر بها, تتجه لأن تكون دولة طبيعية. الدول الطبيعية مصطلح في علم السياسة له أكثر من تعريف, من بينها أنها تلك الدول التي تؤدي كل مؤسسة فيها المهمة التي وجدت أصلا من أجلها, فالجيش نشأ ليكون مؤسسة محترفة تدافع عن الوطن, مهمتها الأولي والأخيرة المرابطة علي الحدود, والتزام الثكنات والذود عن الوطن عندما يقع مكروه أو درئه قبل أن يحدث. وستكون عودة الجيش التامة إلي ثكناته والتزامه الكامل بأداء مهمته الأساسية نقطة تحول هائلة في تاريخ مصر وتاريخ المؤسسة العسكرية ذاتها يشير إلي نضج الثقافة المهنية لرجال القوات المسلحة بما يزيد كثيرا من التقدير الشعبي لهم. ومصر وهي تحاول أن تعود إلي وضع الدولة الطبيعية تحتاج من الكل أن يعود إلي ثكناته وليس من الجيش فقط. قد يكون تعبير ثكنة اقترن بالجيوش حيث الثكنات هي المقار والمراكز التي يبقي فيها الجنود. لكن لسان العرب يكشف عن أن للثكنة معاني أخري من بينها الجماعة من الناس أو الكائنات, وبما أن لكل منا جماعة مهنية أصلية ينتمي إليها, فالأجدر بكل من خرج منها أن يبدأ في العودة إلي ثكناته. إلي الجماعة الوظيفية التي بدأ فيها والمؤسسة التي يحمل هويتها, والعودة إلي الثكنات ليست سهلة, لكنها شرط لازم للتغيير والتقدم. فلسنوات طويلة مضت ضاعت في بلدنا الخطوط الفاصلة بين الأشياء والأشياء. بين الإنسان والإنسان, بين المؤسسات والمؤسسات, بين الوظائف والوظائف, صار كثيرون يتركون ثكناتهم ويقتحمون ثكنات غيرهم, حدثت فوضي وساد ارتباك يحتاج تصحيحه إلي إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم المسافة في حياتنا, يجب أن نبقي علي فاصل واضح ومسافة لا تنتهك بين أصحاب المهن وبعضهم, بين المؤسسات وبعضها, فلكل ثكناته ولو عبر أهل كل ثكنة إلي ثكنات غيرهم لأصبحت الحياة سداح مداح مترعة بالفوضي والمخاطر. مطلوب من الجميع أن يبدأ في العودة كل إلي ثكناته الأصلية. والأمثلة كثيرة. مطلوب من أستاذ الجامعة مثلا أن يعود إلي ثكناته الأكاديمية باحثا ومحاضرا وعالما متخصصا, قد يقتضي دوره العام أن يكتب مقالا أو يظهر علي شاشات التلفزيون ضيفا. لكن عليه أن يعرف أنه ليس بصحفي ولا إعلامي, وأن الأجدر به أن يترك تلك الثكنات لأهلها, فلا الصحافة مهنته ولا التليفزيون ثكنته. ثكنته الحقيقية هي الجامعة, والأطباء كذلك مطلوب منهم أن يعودوا إلي ثكناتهم, إلي مستشفياتهم أو عيادتهم ليطوروها ويطوروا أنفسهم وقطاع الصحة بأكمله, وكم غريب أن نسمع عن أشخاص أنهم أطباء ومقاولون في نفس الوقت, والأئمة والدعاة كذلك مطلوب منهم أن يلتزموا ثكناتهم في المساجد فيهتموا بتطوير الخطاب الديني بدلا من أن يخوضوا في شئون يديرها غيرهم فيحدثوا بكلامهم بلبلة تبث الفرقة وتهين الدور الأصلي الذي تنشأ دور العبادة من أجله, ولا أنسي الصحفيين الذين يحتاج سعاة الشهرة من بينهم إلي العودة إلي ثكناته الصحفية بعد أن زاد الأمر عن حده فبتنا نري صحفيين ورؤساء تحرير وهم يتنافسون من أجل أن يقدموا برامج تليفزيونية يومية ثابتة. فهذا كثير ويجب أن يتوقف, فالتليفزيون ثكنة إعلامية والصحافة ثكنة أخري. صحيح أن الاثنين بينهما ارتباط إلا أنهما ليسا ثكنة واحدة. مصر عانت كثيرا لأسباب كثيرة من بينها عدم احترام التخصص والتجرؤ علي اقتحام ثكنات الآخرين. صار لدينا هوس بالانتشار, كثيرون يري كل منهم في نفسه سوبرمان مهني يصلح لكل ثكنة, يكتب مقالا ويقدم برنامجا ويعمل بالطب, ويدير بيزنس, ويحترف السياسة ولا بأس أن يعمل بجانب هذا كله بالدعوة. شيء يدعو صراحة للخجل وليس المباهاة. فالأمم التي تقدمت لم تتقدم بطريقة حلق حوش وإنما لاحترامها مبدأ التخصص وتوزيع العمل. أعرف أن الدخول في بلدنا ليست كبيرة وأن الأسعار تكوي ظهور الناس, وأن ضرورات الحياة وشهواتها هي التي تدفعهم إلي الخروج من ثكناتهم إلي ثكنات غيرهم مزاحمين بعضهم البعض أحيانا بشراسة, أصبح المهندس مثلا يزاحم مدرس الرياضيات, والأثري يزاحم المرشد السياحي, والضابط يزاحم الإداري, خرج كثيرون من ثكناتهم. وخروجهم يمكن تفسيره لكن لا يجب تبريره. دفعهم إلي الخروج غلاء المعيشة وضغوط الحياة. لكنهم لو علموا فإن الخروج من ثكناتهم ودخول ثكنات الآخرين ليس حلا بل سببا يزيد مشكلاتهم تفاقما, ولنتصارح, فأحد أسباب الكراهية بين الناس في مدننا وقرانا يعود إلي خروج نفر منهم من ثكناته واقتحامه ثكنات غيره. فمن بالله سيحب أو يرتاح لغيره وهو يراه يقطع رزقه أو ينافسه علي ثكنته وتخصصه. العلاج ليس في ترك الثكنات وإنما في البقاء فيها وتطويرها لكي تدر دخولا أعلي وتحقق تقدما أكبر, وهذا وظيفة الدولة التي يجب أن تعود لتنبه الناس إلي ذلك بعد أن غابت طيلة العقود الأربعة الماضية فتركت الناس تخرج من ثكناتها لتخترق ثكنات غيرها لينفرد أهل السلطة بالحكم علي حساب المجتمع المنشغل بصراع الثكنات. إن أحد المعايير التي يجب أن نقيم مسئولينا الجدد علي أساسها حجم ما يقدمونه من جهد من أجل تغيير ثقافة المهنة في مصر وإعادة رسم الحدود بين هذه الثكنة وتلك لكي نتعلم كيف نحترم التخصص وتقسيم العمل. تحية للجيش وهو يعود إلي ثكناته وللرئيس الذي يهتم بذلك, وتحية لكل من يبدأ في العودة إلي ثكنته ليطورها ويكبرها ويكبر معها, فالناس كما سبقت الإشارة تحترم بطبيعتها من يحترم مهنته, ولا ترتاح لأصحاب السبع صنائع. المزيد من مقالات أبراهيم عرفات