* علماء الدين: «المؤاخاة» نموذج فريد لصناعة التماسك الاجتماعى * إدارة الأزمات بالقيم والأسباب وليس بالمعجزات
قرون عدة مرت على الهجرة النبوية الشريفة من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ولا تزال تبوح ذكراها، كلما هبت نسائمها بأسرار تغذى الأرواح المتعطشة لنور الهداية، وتهدئ النفوس الملتاعة لضياء الحق، وتهدى العقول الحائرة إلى طريق الخير، وتصفى القلوب من ران وكدر الجهل وسواد الذنوب والآثام. قرون عدة اتت، وأخرى قد تأتي، لتسأل من جديد: لماذا كانت الهجرة؟، ليحاول العلماء والباحثون والمتخصصون فى كل عصر، بجهد حثيث، الإجابة عن هذا السؤال القديم المتجدد، بأن الهجرة لم تكن فرارا- كما يدعى البعض- بل كانت نصرا وخيرا عظيما للإسلام والمسلمين، وتظل كتابا مفتوحا يتعلم منه من كان له قلب وعقل ووعي، سواء فى كيفية إدارة الأزمات، أو دعم قيم المواطنة والحريات وإرساء العدل، وتعظيم دور المرأة فى المجتمع. الدكتور عطية مصطفى أستاذ الثقافة والدعوة الإسلامية ووكيل كلية أصول الدين والدعوة بالمنوفية يرى أن الهجرة النبوية المباركة، إذا لم تحدث، فأين كان لنا أن نعرف فضل المهاجرين وإخوانهم من الأنصار؟، بل وفضل ومنزلة ومكانة المدينةالمنورة، لتصبح حرما ثانيا بعد الحرم المكي، ويكون مسجد الرسول الكريم ثالث أفضل مساجد الأرض، وما بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم، روضة من رياض الجنة، يقصدها المحبون والمستغفرون والطالبون لإجابة الدعاء ومغفرة الذنوب، والبقيع المبارك الذى يضم خيرة البشر من آل البيت والصحابة والتابعين وأعلام العلماء والصالحين والمحدثين، فالهجرة فتحت أبواب وكنوز الخير التى عرفناها والتى لم نعرفها حتى الآن. وثيقة المدينة ويستطرد د. عطية قائلا: أعطت الهجرة دروسا عظيمة فى قيام الدولة الإسلامية على قواعد العدل والحق، منها توثيق الصلة بالله من خلال بناء المسجد فى المدينة، وتوثيق الصلة بين المسلمين بعضهم مع بعض، فكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وضرورة التعايش السلمى بين المسلمين وغيرهم من ساكنى المدينةالمنورة من اليهود وأصحاب الديانات الأخري، فكانت وثيقة المدينة لتحقيق الأمن الداخلي، وتوحيد الجبهة الداخلية فى مجتمع المدينة، فيما عرف بعد ذلك بأول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان، وتنص هذه الوثيقة على أن جميع المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات، فكانت تلك الوثيقة ترسيخا لمعنى ومبدأ المواطنة الحقيقية، والأساس فى بناء الوحدة الوطنية بمفهومها الصحيح، إلى جانب تعظيم دور المرأة فى الإسلام، حيث كان واضحا دورها من خلال مواقف سجلها التاريخ بأحرف من نور فى أثناء الهجرة مثل موقف السيدة أسماء بنت أبى بكر الصديق، التى كانت تصنع الطعام وتذهب به فى قيظ الحر إلى الرسول الكريم وأبيها فى الغار . ويطالب الدكتور عطية مصطفى باستلهام العبر والدروس من ذكرى الهجرة الشريفة، ونشر القيم الحميدة فى المجتمع، مثل الإيثار والشجاعة والانتماء والولاء وحب الأوطان، واتقان العمل والمحبة، حتى تنهض الأمة برسالتها، موضحا أنه إذا كانت الهجرة قد سعد بها المسلمون الأوائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن المسلمين فى عصرنا الحاضر عليهم الاقتداء بأسلافهم، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، فالذى فاتته الهجرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، عليه أن يهاجر من الحقد والحسد إلى حب الخير، وأن يهاجر من الذنوب والمعاصى إلى طاعة الله والعمل الصالح، ومن حب النفس إلى الإحساس بالآخرين، حتى يعيش الجميع فى خير وسعادة ونماء. التماسك المجتمعي وفى قراءة عميقة لذكرى الهجرة المباركة، يوضح الشيخ أحمد ربيع الأزهرى من علماء وزارة الأوقاف، أنه فى خضم هذا الواقع الذى تنقسم فيه البلدان وتتحارب شعوبها ويتقاتل أبناؤها، يبرز حادث الهجرة للنور مع بداية العام الهجرى الجديد ليعطى لنا نموذجا فى صناعة التماسك المجتمعى وبناء اللحمة الوطنية، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة ومعه المهاجرون الذى تركوا كل شىء خلف ظهورهم لله ولرسوله وحل فى أرض لها تركيبة مختلفة، فى قبيلتين عربيتين بينهما حرب استمرت سنوات وسنوات، ويكفى أن يُذكر يوم بعاث لتعود الدماء تغلى فى العروق ويطيش العقل وتتقابل السيوف، ويهود فى ثلاث قبائل بينها تنافس تجارى واجتماع على استغلال العرب وترهيبهم بالإضافة لطبقة المنافقين التى ظهرت بعد انتشار الإسلام، فكان الهدف الأول للرسول صلى الله عليه وسلم،هو بناء كيان مجتمعى سليم ينتشر بين ربوعه الأمن والسكينة والسلام والوئام، فكانت البداية بانتزاع رايات العصبية فخلصهم من كلمة الأنا البغيضة فلم يعد هناك أوس وخزرج، بل أنصار، أنصار لله ولرسوله، ولكى يجعلهم الرسول يتمسكون بهذا الاسم الجديد، أعلنها صراحة أنه فى جانب الأنصار وأنه لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله، ولو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً، لسلك النبى صلى الله عليه وسلم فى شعب الأنصار، رغم أن الشعب أضيق من الوادي، ودعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح، وكان هذا المسلك هو البداية لنقطة المؤاخاة مع المهاجرين، مؤاخاة لها تبعات وأعباء يقتسم فيها الدار والمال، وكان محل تقدير من أهل الأرض والسماء، مؤاخاة ليست مبنية على فروق دنيوية من غنى وفقر وقوة وضعف وعز وسلطان وحاجة، مؤاخاة سمت فوق الفروق فتجد من كان عبدا حبشيا أو روميا يتآخى مع سيد من أشراف الأنصار، فحدثت اللحمة بذلك والاصطفاف، وصدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وشبك بين أصابعه. وأشار الى أن الأمة فى أمس الحاجة لهذا المعنى أن يتخلى عن رأيه وحزبه وتياره، وينصهر الجميع تحت راية واحدة تعظم قيمة الإنسان وصيانة الأوطان وعمارة الأكوان وتزكية الوجدان، حتى يكون لنا شأن بين الأنام، وليُكتب للأمة طوق النجاة ويبرز لها شعاع النور وتتحول محنتها إلى منحة وشدتها إلى قوة وضيقها إلى فرج وألمها إلى أمل، فما أحوجنا الى تجربة المؤاخاة لنعيشها اليوم لإصلاح ذات البين فى مختلف العلاقات الإنسانية. فن إدارة الأزمة ويؤكد الشيخ أحمد ربيع أن الهجرة مدرسة رفيعة ونموذج فريد لفن إدارة الأزمات، واستخراج الأمل من رحم الألم وتحويل المحن إلى منح وصنع قوارب للنجاة تصل بسفينة أمتنا إلى شاطئ الريادة والرفعة والسيادة، فإذا كان هلال العام الهجرى الجديد يطل علينا والأمة الإسلامية فى فترة من أشد فترات تاريخها ضيقا وخطورة، فالأمة فى محنة حقيقية، لعوامل لا تنكرها العين الرمضاء فما بالنا بالمبصرة المتدبرة المتفكرة، لذلك علينا أن نبرز للأمة من خلال حادث الهجرة منهجا نبويا رفيعا فى إدارة الأزمات، حيث إن الخروج من أى أزمة يحتاج الى إستراتيجية ومقومات متنوعة معتمدة على قاعدة أصيلة هى أن الاسلام يدير الأزمات بالقيم. ومقومات إدارة الأزمة تتمثل فى الاعتراف بأن هناك أزمة، ثم التحرك السريع نحو الحل، وعدم النمطية فى التفكير، بالاضافة إلى الاعتماد على القدرات الذاتية، واستغلال الكفاءات وإدراك قيمة الوقت وواجب الوقت وخطورة تضييعه، وأهمية المعلومة فى التخطيط السليم للخروج من الأزمة، والتمويه والخداع للعدو مع السرية التامة، وتوظيف كل مقدرات ومكونات الأمة لكى يكونوا شركاء فى الحل، لأن من لا يكون جزءا من الحل يصبح جزءا من الأزمة، ولا ننسى أن جميع هذه المقومات استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم، فى حدث الهجرة، من باب حسن التخطيط والأخذ بالأسباب، مع التوكل الكامل على الله سبحانه وتعالي، لذا كتب الله له ومن معه النجاة فى الهجرة، مما يدعو الجميع ولكل من أراد النجاح فى كل شيء أن يتخذ من النهج النبوى العبرة والدرس، فالله عز وجل كان قادرا على أن ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم فى لمح البصر إلى المدينة، وحادث الإسراء والمعراج ليس ببعيد فى هذ الشأن، لكن الله يريد أن يعلمنا أن الأزمات تدار بالقدرات وليس بالمعجزات، فيجب ألا ننتظر معجزات السماء حتى تحل هى مشكلاتنا، بل حل المشكلات يكون بسواعدنا وبالأخذ بأسباب النجاة، أو كما يقال «علم يرفع ووعى يجمع وعمل يدفع».