عيار 21 بكام.. انخفاض سعر الذهب الأحد 28 أبريل 2024    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 28 أبريل    طالبوا بصفقة لتبادل الأسرى.. شرطة الاحتلال تعتقل 7 متظاهرين في تل أبيب    الأهرام: أولويات رئيسية تحكم مواقف وتحركات مصر بشأن حرب غزة    الزمالك يتحدى دريمز في مباراة العبور لنهائي الكونفدرالية الإفريقية    حطموني بعد 23 سنة والآن مفلسة، أيقونة المطبخ الجزائري تستنجد بالرئيس (فيديو)    الأرصاد: اليوم طقس حار نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالقاهرة 31    بطلوا تريندات وهمية.. مها الصغير ترد على شائعات انفصالها عن أحمد السقا    لا بديل آخر.. الصحة تبرر إنفاق 35 مليار جنيه على مشروع التأمين الصحي بالمرحلة الأولى    كينيا: مصرع 76 شخصًا وتشريد 17 ألف أسرة بسبب الفيضانات    محاكمة المتهمين بقضية «طالبة العريش».. اليوم    محافظ الإسكندرية يطلق مبادرة توظيفك علينا لتشغيل 1000 شاب وفتاة    موعد مباراة إنتر ميلان وتورينو اليوم في الدوري الإيطالي والقناة الناقلة    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    الأطباء تبحث مع منظمة الصحة العالمية مشاركة القطاع الخاص في التأمين الصحي    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    عاجل.. قرار مفاجئ من ليفربول بشأن صلاح بعد حادثة كلوب    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    أسعار الأسماك واللحوم والدواجن والخضروات.. اليوم 28 أبريل    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    بعد جريمة طفل شبرا، بيان عاجل من الأزهر عن جرائم "الدارك ويب" وكيفية حماية النشء    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    تشيلسي يفرض التعادل على أستون فيلا في البريميرليج    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور حسن حنفى يكتب ل «الأهرام» قراءة نقدية لفيلسوفنا الراحل: غربة الروح سببها تخلى المعاصرين عن الاجتهاد
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 09 - 2018


الفكر لا يوصف بأنه عربى أو غير عربى
من الظلم القول إن تراثنا لم يعرف السلطة المنتخبة
المثقف يعيش بين نارين وهذه مسئوليته
هل يعنى إحياء التراث استدعاء خرافاته أم التخلص منها؟

1- يمكن وصف المسار الفكرى للرائد الراحل بأنه انتقال من «المنطق الوضعى» إلى «تجديد الفكر العربى». فقد صدر «تجديد الفكر العربى» فى 1971 كبداية لمرحلة جديدة استمرت حتى «حصاد السنين» فى 1991 على مدى عشرين عاما، سبقتها عشرون عاما أخرى من الفكر العلمى، ابتداء من «المنطق الوضعى» الجزء الأول 1951 والجزء الثانى 1961. فإلى أى حد يمثل عام 1971 تواصلاً أو انقطاعاً عن مساره الفكرى العلمى الأول؟
هناك ثلاثة افتراضات تفسر هذا التحول فى أوائل السبعينيات. الأول الانتقال من جامعة القاهرة إلى جامعة الكويت فى عام 1968 وبُعده عن مكتبته العلمية الخاصة ووجوده فى مكتبة جامعة الكويت التى تزخر بعيون التراث جعله يعيش وسط تراث جديد بالنسبة له لم يتعود على التعامل معه من قبل فقرأه بشغف. كان قبل ذلك يريد المعاصرة على حساب الأصالة. ويريد بتر التراث بتراً مكتفياً بعلوم العصر. كان يتمنى أن يكون غربياً فى لباسه وطعامه وسكنه وأساليب حياته علماً منه بالغرب وجهلاً منه بالتراث، والناس أعداء ما جهلوا. ثم اكتشف الثقافة العربية التى لم يعرفها إلا لماماً. ثم جاءت رحلة الكويت للاطلاع على المكتبة العربية. وكان التحول قد بدأ قبل ذلك بقليل أثناء المد القومى العربى والدعوة إلى الخصوصية الثقافية العربية. فالتحول فى 1971 أو قبله عرض تاريخى صرف يتعرض له كثير من الأساتذة المعارين إلى شبه الجزيرة العربية عندما ينتقلون من جو فكرى إلى جو فكرى آخر، ومن بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى. وقد يكون الجو الثقافى الجديد الذى يكثر فيه الحديث عن الإسلام والدين والتراث على نحو غير علمى قد ساعد على توجيه الرائد إلى هذه الثقافة الموروثة يُعمل فيها المنهج العلمى التحليلى ويطبق عليها النظرية العلمية حتى يحدث الاتصال المطلوب بين العلم والدين، التحليل والتركيب، العقل والإيمان، المعاصرة والأصالة، ثقافة الآخر وثقافة الأنا.
والافتراض الثانى أن الانقطاع من المرحلة العلمية الأولى إلى المرحلة التراثية الثانية، من المنطق الوضعى إلى التراث الإسلامى، من العقل إلى الإيمان قد حدث مثلما حدث لكثير من المفكرين المعاصرين بعد هزيمة يونيو 1967. فقد فشلت الأيديولوجيات العلمانية الأخيرة للتحديث: الليبرالية قبل 1952، والقومية أو الاشتراكية العربية بعد 1952، مصطدمة بالثقافة الموروثة التى كانت ولاتزال إحدى مكونات الواقع الثقافى والاجتماعى والسياسى. وفى نفس الوقت ظهرت شعارات العلم والتكنولوجيا، مفتاح سحرى من فريق يرى أننا دخلنا الحرب بمنطق الناى والربابة. وظهرت شعارات الإسلام هو الحل، الإسلام هو البديل من فريق آخر يرى أننا هُزمنا لبُعدنا عن الإيمان. وكسبنا الحرب بعد ذلك فى أكتوبر 1973 لقربنا منه. وظهرت شعارات العلم والإيمان عند فريق ثالث يجمع بين الحسنيين، الدنيا والآخرة. فحدث عند الرائد الراحل نفس التحول من العقل إلى الإيمان، ومن العلم إلى الدين، ومن الغرب إلى الإسلام، ومن الآخر إلى الأنا. ففى هذه الفترة بدأ الوعى بالذات قبل صدور الكتاب بسبع أو ثمانى سنوات أى منذ الستينيات قبل المغادرة إلى الكويت. وقد أعيد طبع «خرافة الميتافيزيقا» الذى صدر عام 1953 فى طبعة ثانية بعنوان «موقف من الميتافيزيقا» عام 1983 من أجل تخفيف وقع صدى الطبعة الأولى وما أثارته من اتهامات حول موقف الرائد من الدين.
والافتراض الثالث هو أن الرائد بعد أن تشبع بالفكر الغربى عامة والفكر العلمى خاصة شعر وكأنه مازال معلقاً فى الهواء، نخبوى يخاطب النخبة، معزول عن الثقافة الشعبية والتراث الوطنى خاصة وأنه لم يكن مطلعاً عليه. ثم فوجئ بعد صحوة قلقة فى أعوامه الأخيرة، وهى من أنضج سنوات عمره أن المشكلة ليست فى نقل الغرب وإلا لأكثرنا النقل، ولكن فى كيفية المواءمة بين المنقول والموروث، دون الاكتفاء بالتجاور بين النقلين. أم أن الحل فى إيجاد ثقافة واحدة موحدة تجمع بين الجديد والقديم، بين الأصالة والمعاصرة؟
لذلك يظل الإشكال قائما، إشكال التواصل والانقطاع، ويكون الاحتمال الأول أقرب إلى الصواب. وهو أن المسار الفكرى للرائد من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية يقوم على التواصل وليس على الانقطاع، التواصل فى النظرية العلمية والمنهج التحليلى والعقل النقدى وإن اختلفت مادة التطبيق من الفكر الغربى إلى التراث الإسلامى. والصعوبة فى هذا الاحتمال هو أن الرائد لم يعلن ذلك صراحة وتركه مسكوتاً عنه. يصعب اكتشافه بوضوح وعلى نحو مباشر. فلا يوجد عرض نظرى لقواعد المنهج التحليلى ثم تطبيقه فى التراث الإسلامى. إنما يظهر المنهج فى التطبيق. بل إن الرائد يصرح أحيانا بالعكس بأن مرحلة الوضعية المنطقية قد انتهت وبدأت مرحلة جديدة، إعمال العقل فى التراث، والعلم فى حياتنا. وكان ينفعل أحيانا ويسب الوضعية المنطقية إذ كان دائم التذكير بها. لكن القضية الأعم فى ثنائية النظرة أم وحدة المعرفة الإنسانية؟ فمازال الرائد مثل باقى فلاسفة الوضعية المنطقية يميز بين العقل والعاطفة، بين العلم من ناحية والفن والدين من ناحية أخرى. الأول لإرضاء العقل والثانى لإشباع العاطفة. وقد ظهرت هذه الثنائية فى ثنايا المرحلتين معاً. وقد تحولت هذه الثنائية إلى نظرة حضارية شاملة فى الغرب العالِم والشرق الفنان، العلم من الآخر والإيمان من عندنا. فنجمع بين الحسنيين، المعاصرة والأصالة، الجديد والقديم، العلم والإيمان، الفلسفة والفن، الغرب والشرق، وتلك ميزة الغرب.
2 - الأصالة والمعاصرة.. بحث علمى أم انطباع أدبى؟
والسؤال المطروح فى «تجديد الفكر العربى» هو إلى أى حد يستطيع الفكر العربى المعاصر أن يحافظ على ذاته واستقلاله وفى نفس الوقت يكون معاصرا؟ وهى قضية الأصالة والمعاصرة، الجمع بين القديم والجديد، بين الماضى والحاضر. قد يبدو لأول وهلة أن هناك تناقضاً بين الاثنين، وأن الإنسان لا يستطيع أن يكون أصيلاً ومعاصراً فى نفس الوقت، وأن عليه أن يختار أحدهما على حساب الآخر. ولكن كيف يمكن الاختيار بين الماضى والحاضر؟ كيف يمكن الاختيار بين شرعيتين، شرعية الروح وشرعية البدن؟ ومن ثم فلا وسيلة إلا الجمع بينهما. ولكن كيف يكون الجمع؟ هل بالازدواجية والتجاور، وأن يكون العربى أصيلاً فى حياته الخاصة معاصراً فى حياته العامة، يقول شيئا ويفعل شيئا آخر، يتمنى الوحدة ويمارس الاختلاف، عالماً فى معمله طبقا للمنقول العلمى الغربى وخرافياً فى تصديقه بالمعجزات والكرامات طبقاً لموروثه الثقافي؟ بهذه الطريقة تضيع وحدة المعرفة. وقد انتهى التوفيق إلى الوقوع فى ثنائية المصدر والقيمة، علاقة الإنسان بالله من الماضى وعلاقة الإنسان بالإنسان وبالطبيعة من الحاضر. وهى ثنائية تنتهى إلى ازدواجية الشخصية العربية وتختزل الماضى فى الدين، والحاضر فى العلم والمجتمع، وكأن التراث القديم كله دين لا علم فيه ولا اجتماع، وكأن التراث الغربى كله علم واجتماع صرفان لا يقومان على تصور للعالم ونسق للقيم يتعلق بعلاقة الإنسان بالله.
والحقيقة أن السؤال مطروح ولكن طريقة المعالجة أدبية. الإشكال علمى والحل انطباعى. لذلك يغلب على «تجديد الفكر العربى» الصور الفنية والانطباعات الأدبية والتشبيهات والاستعارات. لقد ساح بين التراث كما يزور السائح العابر المدن والمتاحف. كانت قراءته للتراث أشبه بساعات بين الكتب يأخذ منها انطباعاته باعتباره عقلانياً وضعياً منطقياً. ويسجل هذه الانطباعات فى أفكار ويعبر عنها بأسلوب أدبى من أجل خلق ثقافة عربية مستنيرة. وانطباعات من التراث وقناعات من الغرب لا يكوّنان علماً دقيقاً بالسؤال المطروح. لذلك لا ينفصل «تجديد الفكر العربى» عن السيرة الذاتية للرائد التى رواها فى «قصة نفس» و»قصة عقل» و»حصاد السنين». وهى على أقصى تقدير قراءات معاصرة لبعض النصوص القديمة مثل البغدادى فى «الفرق بين الفرق»، والغزالى فى «المنقذ من الضلال»، وابن مسكويه فى «تهذيب الأخلاق»، والرازى فى «إصلاح الأخلاق» أو «طب النفوس» أى «الطب الروحانى»، وابن عبد ربه فى «العقد الفريد». لذلك غلب طابع التكرار. فالمادة القديمة متكررة، وتتكرر الانطباعات الحديثة تبعاً لها. فقد تكرر موضوع خلق القرآن عدة مرات كدليل على اضطهاد الرأى وكنموذج للمشاكل التى عفا عليها الزمن.
كذلك غلب أسلوب المقال الصحفى الأدبى على البحث العلمى فى بنية الفكر. وإذا كان المقال الصحفى الأدبى يغلب على مؤلفات الفترة الأولى قبل 1971 فإن المقال الفلسفى هو الغالب على مؤلفات الفترة الثانية بما فى ذلك بدايتها فى «تجديد الفكر العربى». إذ يضم «تجديد الفكر العربى» مجموعة من المقالات نشر بعضها من قبل فى مجلة «الفكر المعاصر» مثل «ياقوتة العقد للعلم والعلماء». وتغيب عنه البنية الفكرية للموضوع.
والعنوان ثلاثى الإيقاع «تجديد الفكر العربى». ويعنى «التجديد» التحديث والتطوير والنقد والتغيير والإصلاح. ويعنى «الفكر» خلاصة الموروث وما تبقى منه فى الذهن. والحقيقة أن الفكر هو الفكر أى النظر. وما يتجدد هو أسلوبه وطابعه ورؤيته ومنهجه وموضوعه. أما «العربى» فالحقيقة أن الفكر لا يوصف بأنه عربى أو غير عربى بل التراث هو الذى يوصف. الفكر أقرب إلى المنطق والعقل الصريح.
3 - اختزال التراث فى الدين
وبعد طرح سؤال الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الأنا والآخر، التراث والغرب، الموروث والوافد، يتم اختزال التراث فى الدين والآخر فى العلم، فيحدث نوع من الظلم فى مقارنة داخلية غير متعادلة بين الطرفين المزمع التوحيد بينهما، الشر من عندنا والخير من الآخر، الدين من عندنا والعلم من الآخر، النص من القديم والطبيعة من الغرب. فالقديم قديم والجديد جديد ولن يلتقيا. ويعطى الرائد نماذج ثقافية ثلاثة لا نعيشها.
أولاً: مشكلة الحرية بمعنييها السياسى والاجتماعى والتى ليس لها ما يقابلها فى تراثنا القديم. كان لفظ الحرية قديماً يُقال فى مقابل الرق. ولكن ليس المهم اللفظ فمعنى الحرية موجود فى التوحيد، وتحرر الوجدان الإنسانى من كل قيد فى فعل النفى الممثل فى شعار «لا إله» ثم تأكيد شمولية القيم فى فعل الإيجاب «إلا الله». وهو موجود أيضا فى العدل فى إثبات الفعل الحر المختار المسئول كوسيلة لإثبات التفرد بعد التوحيد. «أنا حر فأنا موجود». وقد قامت ثورات القرامطة والزنج والعبيد لممارسة الحرية الاجتماعية والسياسية وإن لم تستعمل اللفظ. وممارسة الحرية والوقوف أمام الحاكم الظالم دون تبريره فى الثقافة خير من البحث عن اللفظ وتحليل الألفاظ كما هى الحال فى الوضعية المنطقية والمنهج التحليلى. كما أنه من الظلم البين القول إن تراثنا لم يعرف السلطة المنتخبة من الشعب بل عرف نظام الخلافة. فالإمامة فى تراثنا بنص الأصوليين عقد وبيعة واختيار وإن لم تتم صياغتها بألفاظ الفكر السياسى الغربى الحديث، فالقول إن مشكلة الحرية لن تجد لها حلاً فى التراث ظلم للتراث وعدم معرفة كافية به.
ثانياً: مشكلة المرأة وتتبع مشكلة الحرية. فالمرأة العربية الجديدة غير المرأة العربية بالأمس، عالم الحريم والجوارى والغانيات، والقوامة، وتعدد الزوجات. والحقيقة أن هذا أيضا انتقاء. فالمرأة العربية بالأمس كانت عالمة وعاملة ومجاهدة. والمرأة العربية اليوم عاملة وفلاحة ومثقفة وكاتبة ومبدعة. والغوانى فى الغرب وفى الشرق على حد سواء. والقوامة لا تعنى عدم المساواة تقابلها قوامة النساء فى الغرب. وتعدد الزوجات استثناء من القاعدة يعادلها الانفصال الجسدى وتعدد العشيقات فى الغرب.
ثالثاً: الدخول فى عصر العلم والصناعة. إن عبقرية العرب فى لسانها ومقياس المعاصرة هو ضبط إبرة فى جهاز. فكيف يكون الخلاص بالدين وبالعروبة؟ وكيف يكون إحياء التراث غاية فى ذاته وليس وسيلة للمعاصرة؟ وماذا يعنى الحق فى عصر الحقيقة العلمية؟ وإذا نفعت قضية الوحدة العربية والقومية العربية فى مواجهة الغزو الصهيونى فكيف ينفع التراث الدينى فى عصر العلم؟ وهنا يبدو اختزال التراث فى الدين مع أنه أيضا التراث العلمى والرياضى، والطبيعة والطب والحيوان والنبات والصيدلة، والحساب والفلك والهندسة والموسيقى والجبر. وأين الخوارزمى والكاشانى والحسن بن الهيثم وجابر بن حيان والرازى وابن سينا وابن رشد والطوسى والبيرونى كعلماء؟ إن علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بالطبيعة ليست حكراً على التراث الغربى بل هى أيضا فى تراثنا القديم فى الفقه وأصوله وفى علوم العمران. ولماذا تكون المشاكل من عندنا والحلول عند الآخرين وقد تكون الحلول أيضا من عندنا والمشاكل عند الآخرين؟
أما غربة الروح بين أهلها فسببها ليس التراث القديم الذى لم نعد نعيشه ولا التراث الغربى الذى ننقله ولا نبدعه بل تخلى المعاصرين عن الاجتهاد فى إعادة بناء القديم حتى يصبح معاصرا ونقد المنقول من الغرب حتى لا يصبح تقليدا. العيب هو النقل مرتين، مرة من القدماء ومرة من المحدثين. والتقليد مرتين، مرة للقديم ومرة للجديد. صحيح أن الكاتب العربى المعاصر بين نارين، ثقافة لا يعيشها وغربة الروح بين أهلها.
والحقيقة أنها مسئوليته هو وليست مسئولية الثقافتين القديمة والجديدة. لماذا لا يحيل ماضيه إلى حاضره وينقذ حاضره؟ لماذا يحيل واقعه إما إلى الماضى أو إلى المستقبل دون أن يبدع فى حاضره؟ وهل القدماء أغراب عنا وهم منا ونحن منهم؟ هل أصبحنا مستشرقين ننظر إلى تراثنا وكأنه غريب منفصل عنا ولسنا مسئولين عنه؟ إن تراث القدماء ليس تراثا متحفياً لأنه مازال حياً فى وجدان الناس، يمدهم بتصوراتهم للعالم وبموجهاتهم للسلوك. القدماء ليسوا أهل الكهف بالنسبة لنا بل نحن الذين وضعنا أنفسنا فى الكهف دون أن نخرج منه، بما فى ذلك كهف الفرقة الناجية، فرقة الدولة وسلطان الحاكم. عيبنا نحن أننا نفهم الدين على نحو غربى مسيحى، علاقة شخصية بين الإنسان والله، وليس علاقة اجتماعية بين الإنسان والإنسان. لم تكن مشاكل القدماء بعيدة عن الحياة بل نشأت منها. فالإمامة هى القضية السياسية بالأصالة، الصلة بين الحاكم والمحكوم، الديمقراطية فى مواجهة التسلط، وبهذا المعنى كان القديم عصرياً ونحن الذين جعلناه قديما. وماذا عن كتب الخراج وأحكام السوق؟ إن الصراعات الفكرية القديمة بين حقيقة وشريعة، باطن وظاهر، تأويل وتنزيل، ولاية ونبوة، كلها أدوات فكرية للصراع على السلطة بين الدولة وخصومها، بين النظام والمعارضة.
فهل يعنى إحياء التراث استدعاء خرافاته أم التخلص منها؟ وهل يعنى تعدد التراث تناقضاته أم تعبيره عن مواقف متباينة وصراعات اجتماعية وسياسية تنشأ فى كل مجتمع؟
4 - اختزال الغرب فى العلم
والغرب مصدر لعلمنا بالتراث من خلال الاستشراق الذى يستشهد به الرائد الراحل: كوربان، نيكلسون، جولدزيهر، بيرك. يعتمد على «تاريخ الفلسفة الإسلامية» لكوربان مرتين، ويمدحه فى المرة الثانية مع أن المعلومات عن الفرق موجودة فى المصادر العربية التى يعتمد عليها كوربان. كما يحيل إلى نيكلسون ورأيه فى أبى العلاء وعدم تعمقه لحركة الزندقة من خلال عائشة عبد الرحمن، ومرة ثانية مباشرة فى وصف نيكلسون لرسالة الغفران على أنها صالون ضخم أعد لطائفة عربية من الشعراء. ويشير إلى جولدزيهر وبحثه عن موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل المنشور ضمن «التراث اليونانى فى الحضارة الإسلامية» الذى جمعه وترجمه د. عبد الرحمن بدوى لمعرفة موقف أهل السنة ومعاداتهم لعلوم الأوائل. والاستشراق كما نعلم ليس دراسة لموضوع بل موضوع لدراسة، وأحكامه قاصرة أو متحيزة.
ويعترف الرائد الراحل بأن من أيقظه من سباته فى موضوع الأصالة والمعاصرة هو هربرت ريد. إذ وجد الحل فى عبارة له وليس عند الأفغانى أو محمد عبده أو لدى زعماء الإصلاح. ولم يبدع حلاً متجاوزاً عبارات الغربيين أو المصلحين. والحل نزعة برجماتية عملية، استبقاء ما ينفع وترك ما لا ينفع. والتراث رؤية للعالم، وبنية للعقائد، وبواعث للسلوك، وثقافة شعبية، وعادات وتقاليد. فهل قيمة القديم فى النفع فقط أم أن قيمته فى الرؤية للعالم والتصور للكون؟
5 - ثنائية التصور والمصدر أم وحدانية النظرة والموقف؟
يتمثل عنصر التواصل مع القديم فى قيم العقل والعلم والإنسان. ولا يعنى ذلك الوقوع فى محاكاة القدماء وتقليدهم. فالمحاكاة لا تعنى التقليد بل القيام بالمثل. فإذا استعمل القدماء العقل كأداة للفهم استعمله المحدثون أيضا محاكاة لهم واستمرارا فى القيمة وليس تقليداً. المادة هى التى تتغير، من المادة القديمة المرتبطة بظروف عصرها إلى المادة الجديدة المرتبطة بظروف هذا العصر. مهمتنا إعادة إنتاج التراث فى عصر مخالف مع بقاء الروح والشكل والعقل. فالإسلام دين العقل. وهو آخر مرحلة فى تطور الوحى واكتماله باكتمال العقل. والعقل هو قياس الغائب على الشاهد، واستنباط المجهول من العلوم اعتمادا على تعريف الجاحظ. قامت الحضارة الإسلامية على العقل. وظهر ذلك فى التحليل فى علم الأصول وفى علوم اللغة وفى طلب الدليل والبرهان. يعنى إحياء التراث إذن أخذ صورته، وهو العقل، لا مادته أى ظروف العصر الماضى. فالمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة إعمال للعقل. العقل يجُب الإجماع وبديل عنه. ولكن هذا العقل يكفى للعلم وحده. أما الوجدان، فهو ميدان الشعر. وهنا يقع المعلم فى ثنائية العلم والفن، العقل والوجدان، وهما أخص ما يميز الشخصية العربية، فقد يكون الإدراك حسيا أو عقليا وقد يكون وجدانيا حدسيا كما هو الحال عند الأطفال والنساء والفنانين. لذلك ضم العرب أرسطو لأفلوطين لأنهم لم يتخيلوا عقلاً دون وجدان. وثنائية السماء والأرض يمليها الوجدان وإن أباها العقل. والشعر العربى وسيلة لا غاية، به حكمة وبه صنعة. والشعر، وهو ما يعبر عن شخصية العربى، موقف وجدانى من العالم مثل الوجودية فى الفكر الغربى. وكل الفلسفات الغربية العقلية العلمية بعيدة عن الذوق العربى إلا الوجودية والبرجسونية. حينئذ يكون السؤال: كيف أبدع العرب إذن الفلسفة والأصول والعلوم الرياضية والطبيعية؟
والقيمة الثانية الباقية من التراث هى قيمة العلم بالرغم من أن العلم عند القدماء هو العلم الدينى وعند المحدثين العلم الطبيعى والإنسانى. والحقيقة أن هذا اختزال للتراثين. فالعلم الدينى القديم كان شاملاً لعلوم الطبيعة والإنسان. وعلوم الطبيعة والإنسان فى الغرب شاملة للعمل الدينى. العلم منهج اقتراب من الطبيعة، مرتبط بالحياة، ويبدأ بالشك. لا يعنى إحياء التراث إذن مجرد طبعه بل عيش جوهره، العلم والعقل.
والقيمة الثالثة هى الإنسان. وهناك نماذج منه فى تراثنا. فالإنسان هو الإنسان العاقل الذى يسيطر فيه العقل على الأهواء. أحكام العقل واحدة فى حين تتعدد أحكام الهوى. لذلك قسّم القدماء قوى النفس ثلاثة أقسام: الشهوة وفضيلتها العفة، والغضب وفضيلته الشجاعة، والعقل وفضيلته الحكمة. والعدالة حسن التوازن والتناغم والتناسق بين هذه القوى الثلاث. ولما لاحظ المعلم تشابهاً بين التحليل وبين قدماء اليونان انتهى إلى أنه نصف ابتكار تفوح منه رائحة الأقدمين. ولكن الإنسان العربى حتى الآن لم يعرف كيف يواجه الطبيعة فى حين استطاع الفكر الأوروبى جعل العقل والطبيعة صنوين. والحقيقة أنها مشكلة أيضا فى التراث القديم، عالم الأذهان وعالم الأعيان. ويرى المعلم أننا أنجزنا فى الأخلاق أى فى الإنسان العاقل. أما الغرب فهو صاحب الإنجاز الضخم فى الطبيعة. وهنا أيضا اختزال مزدوج لنا وللغرب على حد سواء. فقد نشأت العلوم الطبيعة فى تراثنا من ثنايا التصور القيمى للعالم. والتوحيد يضم فى نفس الوقت الإلهيات والطبيعيات بداية بالطبيعيات. ويجمع بين العلم النظرى والعلم العملى. وإذا كان القدماء قد أعطوا الأولوية للعمل على النظر فقد فعل ذلك تلاميذ «إمانول كانط» خاصة «يوهان فيشته» وكل الفلسفات المعاصرة فى القرن العشرين. وقد كان الفقهاء هم الأصوليون والعلماء فى نفس الوقت، يجمعون بين علوم الدين وعلوم الدنيا. وإذا كان غاب فى فكرنا المعاصر التفكير النظرى فى الطبيعة فلأننا لم نقطع بعد مع الماضى كما فعل الوعى الأوروبى فى عصر النهضة. وهناك فلسفات معاصرة فى الغرب، الفلسفة العلمية فى العالم الأنجلو سكسونى فى شمال غرب أوروبا وأمريكا، وفلسفة الوجود فى غرب أوروبا وفرنسا وألمانيا خاصة، وفلسفة المجتمع فى شرق أوروبا وروسيا. ولكن الذى ساد فى الغرب العلم والفلسفة العلمية. أما الإنسان فقد ضاع فيه. وهو أول نقد يوجهه المعلم للغرب! أما بالنسبة لنا فالأمر يختلف نظراً لأن العلم يأتينا من الغرب والنظرة الإنسانية تأتينا من التراث. وبالتالى يكون التحدى لنا هو الجمع بين العلم والإنسان، بين تراث الآخر وتراث الأنا.
كان للقدماء فلسفة. أما نحن فننقل عن الغرب. ولكن فلسفة القدماء مازالت حية فى الشعور، حاضرة فى الثقافة الشعبية، ممتدة عبر التاريخ. وإذا كان للهند المعاصرة فلسفتها عند راداكرشنان فإن المعاصرة توجد فى الإصلاح بروافده الثلاثة: الإصلاح الدينى عند الأفغانى، والفكر الليبرالى عند الطهطاوى الممتد عبر أربعة أجيال، والفكر العلمانى عند شبلى شميل. وتظل الحالة الراهنة للثقافة المعاصرة هى اجتماع الموروث مع الوافد ثم محاولة الجمع بين الاثنين عند محمد عبده والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم. لقد أخد البعض كل الموروث وكل الوافد مثل العقاد، وأخذ البعض الآخر بعض الموروث وكل الوافد مثل طه حسين. وأخذ فريق ثالث كل الموروث وبعض الوافد مثل محمد عبده. وأخذ فريق رابع بعض الموروث وبعض الوافد مثل أحمد أمين وتوفيق الحكيم. ومع ذلك، وبتوالى الأجيال يشتد التقابل بين الموروث والوافد، وتقل محاولات الجمع بين الاثنين. فتصبح الثقافة العربية أقرب إلى النقل المزدوج مرة من القدماء ومرة من المحدثين.
لقد ظهر «تجديد الفكر العربى» فى نهاية عقد الستينيات الذى ملأت فيه مصر الدنيا فكراً وقومية واستقلالاً. ولا يكاد يظهر هذا العقد فيه باستثناء إشارتين عابرتين. الأولى إلى القومية العربية والثانية إلى إسرائيل مما يبين غياب الخلفية السياسية والاجتماعية التى يتم فيها تخلق الفكر العربى المعاصر وكأن الأمر مجرد مزاج فردى إرادى بين التيارين الرئيسيين المكونين له: الموروث والوافد. فى حين أن الموروث والوافد قد خرجا من ظروف سياسية واجتماعية. ويتفاعلان فى الحاضر فى ظروف سياسية واجتماعية مختلفة. الحاضر هو الآتون الذى يتم فيه التفاعل بين الماضى الذى منه يأتى تراث القدماء، والمستقبل الذى منه يأتى تراث المعاصرين.
يكفى فخراً للمعلم أنه بدأ مبكراً تجديد الفكر العربى. وقد يتلوه جيل أكثر تنويراً حتى ننتقل من الخطابة السياسية فى عصر الإصلاح منذ فجر النهضة العربية إلى المقال الأدبى عند المعلم ثم من المقال الأدبى إلى الخطاب العلمى عند الجيل الذى يليه، ثم من الخطاب العلمى إلى التحليل العلمى لجيل ثالث قادم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.