ترتكز إستراتيجية الرئيس الأمريكى ترامب فى السياسة الخارجية على عقيدة الصفقة، كرجل أعمال جاء من خارج النخبة التقليدية، وتقوم على تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر، والمزاوجة بين سياسة العصا، العقوبات وتصعيد الخطاب السياسي، وسياسة الجزرة، الحوار والمساعدات، وقد برزت تلك السياسة فى العديد من ملفات السياسة الخارجية مثل تجميد جزء من المساعدات العسكرية لمصر فى بداية عهد ترامب تحت مزاعم حقوق الإنسان واعتبارات الديمقراطية، ثم عودتها بعد أن غلبت المصالح الإستراتيجية بين البلدين واتضاح الصورة الحقيقية فى مصر، كذلك إلغاء 300 مليون دولار مساعدات لباكستان تحت دعاوى تقصيرها فى مواجهة التطرف والإرهاب، خاصة على الحدود الباكستانية الأفغانية، بينما السبب الحقيقى هو تنامى التحالف الصينى الباكستانى عبر ما يعرف بممر التنمية فى إطار طريق الحرير، مما اعتبرته واشنطن خروجا باكستانيا من العباءة الأمريكية والتقارب مع المنافس الإستراتيجى لها. كما استخدمت أمريكا سياسة العصا مع كوريا الشمالية وممارسة سياسة أقصى الضغوط عبر العقوبات المشددة ثم سياسة الجزرة وعقد قمة مع الرئيس الكورى الشمالى كيم جونج أون، كذلك استخدام سياسة العصا مع إيران والانسحاب من الاتفاق النووى وإعادة فرض أقصى العقوبات لدفع إيران نحو الحوار وتقديم تنازلات جوهرية بشأن ملفها النووى وبرنامجها الصاروخى الباليستى ودورها الإقليمى فى دعم الإرهاب وزعزعة الاستقرار. كذلك الحال مع تركيا عندما فرضت عليها عقوبات ورسوما جمركية على سلعها لمطالبتها بالإفراج عن القس الإنجيلى الأمريكى وذلك لاعتبارات انتخابية خاصة بكسب أصوات الإنجيليين فى انتخابات التجديد النصفى ومعاقبة تركيا على توجهها نحو التحالف مع روسياوإيران. وفى معظم هذه الحالات فإن سياسة العصا والجزرة تتعلق باعتبارات سياسية قد تحقق أهدافها أو لا تحقق وفقا لمنطق الواقعية والمصلحة وجدوى تلك السياسة. لكن الإشكالية الكبرى عندما تطبق الولاياتالمتحدة تلك السياسة فيما يتعلق بالأونروا، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، فقد ألغت الإدارة الأمريكية المساعدات التى كانت تقدمها للوكالة وتقدر ب300 مليون دولار، مما تسبب فى أزمة كبيرة لها وضعتها فى مأزق وغير قادرة على تقديم خدماتها الأساسية لأكثر من 5.6 مليون لاجئ فلسطينى فى الأراضى الفلسطينية ولبنان والأردن وسوريا. الإدارة الأمريكية بررت خطوتها بوجود عيوب جوهرية فى برنامج عمل الوكالة، لكن السبب الحقيقى هو القضاء على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، الذى كفله قرار مجلس الأمن الدولى 194، وتقليل أعدادهم من ستة ملايين لاجئ إلى أقل من نصف مليون، يمكن تقرير مصيرهم ضمن أية مفاوضات قادمة، كجزء من مخطط شامل لإعادة هيكلة عملية السلام وفق للرؤية الأمريكية والإسرائيلية باستبعاد قضايا الوضع النهائى خاصة اللاجئين والقدس، بعد قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس واعتبارها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وذلك ضمن ما يعرف بصفقة القرن، وهو ما يمثل خطورة كبيرة فى القضاء على الثوابت الفلسطينية المتمثلة فى إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية وحق العودة لكل اللاجئين الفلسطينيين. خطورة الخطوة الأمريكية هو الخلط ما بين السياسى والإنساني، فاللاجئون الفلسطينيون الذين دفعوا ثمنا غاليا عبر سبعة عقود نتيجة لإبعادهم عن أراضيهم الأصلية، يواجهون مأزقا إنسانيا حقيقيا يتمثل فى حرمان أكثر من نصف مليون طالب من اللاجئين تقوم مدارس الأونروا بتعليمهم، إضافة إلى تشغيل أكثر من مائة ألف لاجئ فى هيئات الوكالة المختلفة، حيث قامت بتسريح الآلاف منهم لعجزها عن دفع رواتبهم، وهو ما يفاقم المعاناة الفلسطينية الإنسانية فى ظل تدهور أوضاع المخيمات وافتقادها للخدمات الأساسية من صحة وتعليم وكهرباء وبنية أساسية. تسييس الأونروا من جانب الولاياتالمتحدة لا يمكن أن يزيل حق العودة الذى تعد الأونروا شاهدا عليه وضمانة له، كما أن الوكالة أنشئت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949 وبموافقة 167 دولة، حيث وقفت أمريكا معزولة ومعها إسرائيل فى مواجهة المجتمع الدولى كله، كما حدث مع قرار القدس، حيث استنفرت الدول العربية والإسلامية والأوروبية والإفريقية وكذلك دول أمريكا اللاتينية ضد الخطوة الأمريكية واستنكرتها وسعت إلى مساعدة الأونروا كجزء من المسئولية الأخلاقية من المجتمع الدولى تجاه الشعب. قرار إدارة ترامب يفقد الولاياتالمتحدة مصداقيتها وينزع عنها الجانب الأخلاقى فى معاقبة اللاجئين الفلسطينيين واستخدام هذه الورقة لأغراض سياسية لتمرير صفقة القرن والضغط على الجانب الفلسطينى للتخلى عن الثوابت الأساسية، لكن الذى لا تدركه الإدارة الأمريكية أن مثل هذه الخطوة تحمل تداعيات خطيرة ليس فقط فى ضرب عملية السلام وحل الدولتين، وإنما أيضا تهديد الأمن والاستقرار فى المنطقة، حيث تؤدى محاولات أمريكا لإلغاء الأونروا إلى انتشار الإحباط واليأس والتطرف، كما أنها تعطى الذريعة للجماعات المتطرفة والدول المارقة مثل إيران، للمزايدة وتوظيف المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطينى لخدمة أجنداتها، ولذلك فإن موقف الولاياتالمتحدة من الأونروا يكشف فشل سياسة العصا والجزرة التى تتبناها إدارة ترامب ويؤدى إلى عواقب وخيمة على الولاياتالمتحدة ذاتها وعلى مصالحها فى المنطقة. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد