قليلة هى الكتب التى تحمل معها الثراء الفكرى، والاتساق المنهجى، وعمق المعالجة، والمتعة المستمدة من لذة النص -إذا شئنا استعارة رولان بارت- وغالبا ما تتأتى عبر العناية الأسلوبية وجماليتها من قبل الكاتب، فضلاً عن نزعة التقصى لجذور الأسئلة والإشكاليات والفرضيات التى تنهض عليها خطة الكاتب ومشروعه البحثى حول موضوع الكتابة. سيرة الرواية المحرمة هو واحد من الكتب المهمة فى هذا السياق رمى كاتبه الى البحث فيما وراء أزمة السجال الممتد حول الرواية وموضوعها وشخوصها وعوالمها، والتأويلات المتصارعة حولها، وعن السردية نفسها وهل تتناول قصة الخلق والأنبياء والرسل وعن التميز بين السردية المقدسة كما وردت فى النص الدينى المؤسس، أم أنها تحولت من خلال العملية الإبداعية إلى مجال التخييل وتداخلاته ما بين المقدس والتاريخى، وبعض الواقعى. جدل وسجالات حول رواية محفوظ الذائعة الصيت، التى تضخمت الخطابات الدينية والسياسية والأدبية حولها، وبعضها دار حول مرويات حولها، وقلة ارتكزت على النص الروائى تفكيكًا وتحليلاً وتفسيراً. الخطاب حول المرويات عن الرواية لا درسها النقدى التحليلى، هو الذى أسهم فى حدة السجال الدينى حول ما إذا كانت رمزيات السرد الروائى تشير الى شخوص الأنبياء، ومن ثم اعتبارها خروجا عن صراط رواية النص المقدس الإسلامى لقصص الأنبياء، ومن ثم سهولة اللجوء إلى رفض العمل، واستنكاره وتحريمه ومصادرته. الخطاب الدينى حول النصوص الأدبية والأعمال الفنية نزع إلى تحويل الفنى إلى واقعى، والتعامل معه من منظور المعايير الدينية الفقهية أو اللاهوتية من خلال إستراتيجية الثنائيات الضدية الحلال والحرام، الكفر والإيمان، المشروع والمحرم، وتجاهل استقلالية العمل الأدبى والفنى عن الواقع الذى يدور حوله. يتناسى صناع الخطاب الدينى حول الأدب والفن أن الواقع فى السرد أو فى إطار اى أداة فنية ليس هو الواقع فى الحياة، وأن تحليل العمل الفنى والأدبى تفكيكه يحتاج إلى أدوات ومنهجيات وآلة إصلاحية متخصصة ومغايرة عن لغة وأصول الفقه واللاهوت. إن نظرة على مقاربات الخطاب الدينى حول رواية أولاد حارتنا ركزت على المطابقة بين رواية النص المقدس القرآنى، وبين ما كتبه نجيب محفوظ على الرغم من المغايرة بينهما، لأن رمزية النص رمت إلى أمور واختلالات سياسية واجتماعية فى الواقع المصرى ولم تهدف إلى سرد حول الرسالات السماوية وقصص الأنبياء المرسلين من الله جل جلاله إلى عباده. بعض الخطاب السياسى المحافظ واليمينى مال إلى الخطاب الدينى كداعم له ومتستر وراءه، وذلك لأن الاستناد إلى المرجع الدينى وتأويلاته يشكل إستراتيجية حسم للنزاعات الفكرية والأدبية، لأن الخطاب الدينى يميل إلى التعبئة الجماهيرية الاوسع نطاقا من الجماعة الثقافية أو فى الإطار السياسى، ومن ثم سهولة التجميع والحشد وإيجاد الانقسامات وراء خطاب الرفض الدينى للعمل الفنى أو الروائى أو القصصى أو المسرحى. هذه الإستراتيجية التى لجأ إليها التياران الدينى واليمينى فى مصر لم تكن جديدة، وإنما استخدمت فى المرحلة شبه الليبرالية إزاء عديد من الكتب الفكرية المهمة كالإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبد الرازق، والشعر الجاهلى لطه حسين، إلا أن البيئة السياسية والفكرية شبه الليبرالية كانت تشكل حاضنة ثقافية للأفكار الجديدة، والمساءلات النظرية والمنهجية للموروث، وتحمى من خلال المجتمع الثقافى شبه المفتوح هذا النمط من التمرد على المألوف والسائد والاجتهادات الفكرية الجسورة. من هنا لم يكن الخطاب الدينى وصنَّاعه ومشايعوه لهم اليد الطولى والقدرة على حسم النزاعات الفكرية من خلال آلية المصادرة، أو التحريم والتكفير الدينى، لأن القضاء المستقل هو الحد الفاصل بين الأطراف المتنازعة. صراع الخطابات الدينية والسياسية والأدبية هو مركز السردية حول السردية الروائية أولاد حارتنا، وقد استطاع الكاتب محمد شعير ببراعة واقتدار أن يعيد بناء السردية حول السردية من خلال استكناه الجوانب الخفية والمكشوفة من خطابات الأطراف المتنازعة وما وراءها. استطاع الكاتب أن يبرز بوضوح أن الرواية، وما دار حولها لم تكن سوى صراع سياسى محتدم بين اليمين واليسار، وبين الدين والدولة والصراع به وعليه فى السياسة المصرية فى هذه المرحلة من تطور نظام يوليو التسلطى ولا يزال إلى الآن. الصراع حول رواية أولاد حارتنا هو تعبير مكثف عن مجمل التناقضات السياسية والدينية طيلة نظام يوليو1952، وعلى رأسها الصراع بين النخبة السياسية الحاكمة، وبين التيار الدينى السياسى المحافظ والمتشدد. لجأت النخبة المسيطرة إلى السياسة الدينية التى ذهبت فى مراميها إلى احتكار السلطة السياسية للدين عموما، وفى تحديه وضبط وظائفه فى السياسة والمجال العام، ومن خلال الدور المخصص للمؤسسة الدينية الرسمية. هذا النمط الاحتكارى للدين عموما هدف إلى استبعاد أى فاعلين آخرين من الدخول إلى المجالين العامين السياسى والدينى إلا من خلال الحدود والقواعد التى تحددها أجهزة الدولة والمؤسسة الدينية للسوق الدينية والفاعلين داخلها. استخدمت النخبة الحاكمة الناصرية وما بعدها- الدين الاسلامى والمسيحى. فى أداء عديد الوظائف وعلى رأسها: 1- أساس من أسس شرعية النظام وأحد مصادره الرئيسة. 2- أداة من أدوات التعبئة الاجتماعية وراء السياسات العامة للحكم. 3- أداة لتصويغ شرعية القرارات السياسية الرئيسة للنظام. 4- أداة من أدوات السياسة الخارجية المصرية تجاه الدائرتين العربية والإسلامية. 5- أداة لبناء التوازنات بين الأطراف الفكرية فى المجتمع، بين ما كان يطلق عليه مصطلحات اليمين واليسار، والمحافظين والمجددين، بين القوى الدينية والقوى العلمانية، وفق إصلاحات وتحديات هذه المرحلة التى تتسم بالسيولة والغموض فى عديد الأحيان.( وللحديث بقية) لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبدالفتاح