ليس هناك من لا يدرك أهمية الجغرافيا فى الثقافة والسياسة والتخطيط والتنمية والحرب، وكل مناحى حياة الشعوب، بحكم أهمية موقعها من الحيز المكانى بجانبيه الطبيعى والبشري، وأدواتها فى تشخيص العلاقة بين الإنسان والأرض، ودورها فى شريعة الحضارات وخريطة التوسعات الاستعمارية على مر العصور. وتبقى الجغرافيا وثقافتها للأمم عروة البقاء وعرابة الانتماء والمواطنة، لريادتها فى تطبيق العدالة المكانية، وجودة الحياة البشرية، والحد من التفاوت بين مختلف الأقاليم فى التنمية «تستمد الدولة قوتها من توازن ثرواتها مع عدد سكانها»، وضبط التفاعل المكانى للمحافظة على البيئة من التلوث «الجغرافيا علم البيئة»، والتنبؤ باحتياجات السكان وسبل الوفاء بها، وقضايا الحدود السياسية ومشكلاتها وغير ذلك، تقود الجغرافيا سيمفونية القوة والرفاهة والسعادة، بنشر ثقافة استقراء الحقائق والمفاهيم الجغرافية وتطبيقاتها فى الحياة والمجتمع، وتوظيف مهارتها لحل مشكلات وقضايا التنمية وإدارة الأزمات والارتقاء بسلوكيات البيئة، وإعداد الفرد وغرس مقومات الهوية وإعلاء قيمة الوطن، ورفع الوعى بالرسالة القومية والإنسانية فى عصر العولمة، علاوة على دورها فى تجديد الخطاب الثقافى فى دول العالم العربي. ناهيك عن، تحديد كيفية انتشار الثقافات والعلاقات المتبادلة بينها وبين مناطق وجودها، والخريطة الثقافية للمجتمعات، والتكامل مع فرع الأنثروبولوجيا، حيث لا تتشابه المجتمعات البشرية وأحوالها المعيشية وبناها الاجتماعية لتباين الظروف الجغرافية التى سكنتها وانخرطت فيها تلك المجتمعات لفترات زمنية طويلة، وأن لاختلاف الخصائص الطبيعية تأثيرا فى البيئات الجغرافية على خصائص السكان من حيث السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف ونظام الحكم والدفاع أو الهجوم لأسباب عسكرية وغير ذلك, ويظل الذكاء المكانى الأكثر تأثيراً فى قدرة الفرد على الإدراك والابتكار، وكذلك تفعل الثقافة فى البيئة والمجتمع، ولأن الجغرافيا هى مسرح الحياة اليومية وتسيطر بعواملها المختلفة على نوعية وجودة الحياة وعلى حركة وتوزيع السكان، فإن الثقافة الجغرافية تعد عقيدة فى الواجب الوطني. تجتاح أمريكا متلازمة جنة الله فى الأرض، رغم تأصل الإرهاب وجريمة الإبادة الجماعية لسكانها الأصليين من قبائل الهنود الحمر، ولما غزت الأمية الجغرافية المجتمع الأمريكى بمختلف قطاعاته، بادرت الحكومة بتأكيد أهمية الثقافة الجغرافية من أجل مستقبل أفضل لمواطنيها، واختارت الجغرافيا ضمن خمس مواد أساسية ستواجه بها الدولة القرن الحادى والعشرين. وعلى ذلك تعمل لنقل علم الجغرافيا من مرحلة التطبيقات التقليدية إلى مرحلة الجغرافيات فائقة المستوى العلمى والمحاكاة بتكنولوجيا الكم، ونظم الاستشعار عن بعد، ونظام تحديد المواقع العالمية، من أجل خدمة كل القضايا المدنية والعسكرية والسيطرة على العالم. وقد أكدت ندوة الجغرافيا فى التعليم العام «المجلس الأعلى للثقافة، 2002» أهمية نشر الثقافة الجغرافية بين مختلف فئات المجتمع، وبينت مسئولية التربية الجغرافية فى بناء فكر وشخصية الإنسان وسلوكياته وقيمه، لأصالة جذور الثقافة الجغرافية فى مثيلاتها من الثقافات العلمية الأخري. وكشفت أن التعليم النظامى الحالى يفتقد القدرة على تأهيل ثقافة الفرد من جميع النواحى ومن بينها الناحية الجغرافية. الأمر الذى يتطلب نشر هذه الثقافة لمكافحة مخاطر العولمة واسترجاع الموقع الإيجابى للأمة وتغيير الواقع السلبى للأوطان, هنا لا محالة من اعتبارها مهمة مصيرية تواجهها صعوبات كبري، والحل فى تجسيد رؤية عربية خالصة لمستقبل الثقافة العربية بأحدث البرامج المتطورة لنشر الثقافة الجغرافية وأخواتها، ذات الاتصال المباشر بالحياة وما فيها من ظواهر مختلفة، والتى تسهم فى تنمية القيم بجميع أنواعها وتساعد على إيجابية السلوك الاجتماعي. ويلزم ذلك الاهتمام بالتربية الجغرافية فى التعليم العام، وإدخال الجغرافيا السلوكية والثقافية فى التعليم الجامعي، وإطلاق دور الجغرافيا والجغرافيين من أجل مستقبل أفضل لحياة الشعوب. لمزيد من مقالات ◀ د. حمدى هاشم