ناقشنا الأسبوع الماضى كيف وصلت أزمة الصحافة المصرية إلى مفترق طرق مهم قد يؤدى ببعضها إلى الاندثار، لا فارق بين ورقية وإلكترونية، أو بين قومية وخاصة، مع ارتفاع تكاليف التشغيل وتراجع الإيرادات بشكل غير مسبوق، إلى جانب المشكلات التى تعانيها تحريريا وإداريا. وأوضحنا بعض التجارب العالمية لتوفير مصادر تمويل جديدة للصحف، لكن المشكلة أننا فى مصر لا نستفيد منها، رغم أنها محل دراسة لباحثى الدراسات العليا بكليات الإعلام، ومازلنا أسرى للأفكار التقليدية التى لن تخرج الصحافة المصرية من أزمتها بل قد تسرع باندثار ماتبقى منها. والحقيقة أن الحديث عن سبل معالجة أزمات الصحافة والإعلام والارتقاء بها أمر يكتسب أهمية خاصة باعتبارها قضية أمن قومي، فالصحافة والإعلام مكون أساسى من القوة الناعمة لمصر، وقد ظلت تلعب هذا الدور لسنوات طويلة وتؤثر بشكل فاعل فى الوجدان العربي، ونحن أحوج ما نكون لاستعادة هذه القوة الآن فى ظل التحديات التى تواجهها البلاد، وحرب الشائعات المستعرة على مواقع التواصل الاجتماعى التى تحولت إلى بديل لوسائل الإعلام. لكن الحديث عن حلول للمشكلات الاقتصادية التى تعانيها الصحف المصرية المطبوعة والإلكترونية غير ذى جدوى مالم يتم تطوير المحتوى أولا ليصبح جاذبا للقراء، فما الفائدة من رفع أسعار الصحف المطبوعة أو تطبيق نظام الدفع أولا بالمواقع الإلكترونية، إذا لم يكن المحتوى مهما لدرجة تجعل القارئ يتنازل عن بعض ماله بغض النظر عن حجمه من أجل الاطلاع على هذا المحتوي، رغم الظروف الاقتصادية العامة. فالمحتوى هو (الخدمة) التى تقدمها الصحيفة للقارئ، فمن ذا الذى يمكن أن يدفع نقودا ليشترى خدمة رديئة، أو لا تلبى متطلباته واحتياجاته. ولا شك أن هناك أزمة فى المحتوى لدى معظم الصحف الورقية والإلكترونية تستلزم إعادة النظر والتطوير لتواكب متطلبات العصر، فمن غير المعقول أن تصدر الصحف فى اليوم التالى وكل ماتنشره هى أخبار الأمس، التى علم بها وسمعها وشاهدها القارئ من وسائل إعلام متعددة وقت حدوثها، سواء من الفضائيات أو خدمات الرسائل العاجلة أو المواقع أو وسائل التواصل الاجتماعي، ومعظمها عبارة عن بيانات رسمية صادرة من الجهات والوزارات المختلفة دون أى جديد. فلا انفرادات خاصة يراها القارئ لأول مرة، أو تحليلات معمقة تجيب عن أسئلة جديدة، أو صورة فوتوغرافية مبدعة تغنى عن ألف مقال، مع غياب الاهتمام بالمحافظات والأخبار المحلية المتميزة. وقد كان الفصل التعسفى بين الصحيفة الورقية والبوابة الإلكترونية التابعة لنفس المؤسسة الصحفية والتعامل معهما على أنهما جزر منعزلة خطأ كبيرا وقع فى جميع المؤسسات الصحفية القومية، ونجت منه بعض المؤسسات الخاصة التى كانت أكثر تطورا. فالصحف العالمية لا تعرف هذا الفصل الغريب، وتعمل كلها بنظام غرفة الأخبار المدمجة التى تتلقى جميع أشكال العمل الصحفى والإعلامى من محررى المؤسسة، وتقوم بإعدادها وتوزيعها مباشرة على وسائط النشر التابعة لها سواء الورقى أو الإلكترونى أو الموبايل أو البث التليفريوني، بما يؤدى إلى التكامل وليس الفصل بينها، مع الاهتمام بنشاطها أيضا على مواقع التواصل الاجتماعي. فليس من المعقول أن يكون لمؤسسة صحفية واحدة عدة مندوبين فى جهة واحدة، يعمل كل منهم لوسيلة النشر الخاصة به داخل المؤسسة بمعزل عن الآخرين، رغم أن عملهم بمصر الآن فى معظم الأحيان أصبح مقصورا على تلقى البيانات الرسمية عبر البريد الإلكترونى ونشرها كما هى بعد كتابة اسم المحرر عليها، وخاصة بعد إغفال معظم المؤسسات مبدأ التخصص الذى يمكن أن يخلق صحفيا متميزا فى قطاع أو قضايا معينة يصل إلى درجة خبير بما يكتسبه من تدريب مستمر وخبرة طويلة. إن عملية التدريب المتواصل على آليات العصر هى طوق النجاة للصحفيين، لأن المشكلة الأساسية فى أزمة المحتوى هى غياب المهنية والاحترافية، وأذكر هنا واقعة طريفة حدثت منذ أيام قليلة تكشف مدى أزمة الصحافة المصرية، عندما نشر الناقد الفنى اللبنانى سعيد الحريرى تويتة يعلن فيها تضامنه مع المطربة إليسا ويناشد جمهورها الذهاب إلى حفلها حاملين الورد تضامنا معها، فقام موقع إلكترونى مصرى شهير بنشر موضوع عن تضامن رئيس الوزراء اللبنانى سعد الحريرى مع إليسا، ونشر نص التويتة مع صورة لرئيس الوزراء اللبناني، وطبعا تحول الأمر لمثار سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعى اللبنانية، اضطر بعدها الموقع المصرى إلى تعديل الموضوع وحذف صورة سعد الحريرى منه ونشر الحقيقة! ومن المهم أيضا عند الحديث عن مشكلة المحتوي، أن تحدد كل صحيفة بدقة نوعية القارئ الذى تتوجه إليه، حتى يكون المحتوى متماشيا مع اهتماماته، وهناك مدارس أخرى مازالت بقاياها موجودة تحمل شعار تحطيم التابوهات فى الدين والجنس والسياسة، حسبما تسمح طبيعة المجتمع وهامش الحريات بالطبع. والخلاصة أن الصحافة عندنا حسبما يقول الباحث والصحفى محمد شعبان فى بوست كاشف له على الفيسبوك تواجه أزمة حقيقية فى علاقتها بالقارىء وفى علاقتها بالعصر الذى توجد فيه وفى علاقتها بالسلطة ومستوى الحرية الذى تتمتع به.. أزمة الصحافة أنها تتعامل مع معطيات القرن الحادى والعشرين بنفس أدوات القرن الماضي, الأسلوب لم يتغير طريقة العرض لم تتغير.. القضايا كما هي.. أولويات النشر كما هي.. القوالب الصحفية كما هي.. طريقة التعامل مع المصادر كما هي.. مصادر التمويل والإعلان لم تشهد تطورا.. كل هذه المحاور تحتاج لطفرة وعندما يتحقق ذلك نرفع أسعار الصحف كما نشاء. كلمات: تبدأ بالتخلى عن قبعتك، ثم تتخلى عن معطفك، ثم قميصك، ثم جلدك، ثم فى النهاية روحك. شارل ديجول لمزيد من مقالات ◀ فتحى محمود