احتدم الخلاف أخيرا بين مؤيد ومعارض بشأن النص الذى قرر مجلس النواب إضافته لقانون الجنسية المصرية رقم 26 لسنة 1975، ويقضى هذا النص المضاف فى شكل المادة 4 مكرر من قانون الجنسية بأنّه يجوز بقرار من وزير الداخلية منح الجنسية المصرية لكل أجنبى أقام فى مصر إقامة بوديعة خمس سنوات متتالية على الأقل سابقة على تقديم طلب التجنس متى كان بالغًا سن الرشد وتوافرت فيه الشروط المبيَّنة فى البند رابعًا من المادة 4 من هذا القانون. ونظرًا لأنَّه كان لى شرف المشاركة فى وضع قانون الجنسية الحالى الصادر عام 1975، وكذلك المشاركة فى التعديل المهم لهذا التشريع عام 2004 وهو التشريع الذى قرر المساواة بين الأب والأم فى نقل الجنسية للأبناء، فإنى أجدُ لزامًا عليّ أن أدلى برأيى بشأن النص الجديد المقدم من مجلس النوَّاب. لقد مرّت تشريعات الجنسية المصرية منذ نشأتها سنة 1926 بمرحلتين متباينتين؛ وقد بدأت المرحلة الأولى بإصدار قانون الجنسية سنة 1926 الذى اتصف بتسهيل دخول الجنسية المصرية للأجانب إلى حد أن الأجانب أنفسهم اعترضوا على هذا التسهيل إذ كان من شأنه أن يفقدهم الامتيازات الأجنبية التى كانوا يتمتعون بها. وقد أدى ذلك إلى إلغاء هذا التشريع وإحلال تشريع آخر عام 1929 أسقط بعض التسهيلات السابق النص عليها. أما المرحلة الثانية فهى التى بدأت بعد ثورة 1952، وتميزت بالتشدد فى شروط اكتساب الجنسية المصرية وذلك سواء فى التشريع الصادر سنة 1958 والتشريع الحالى الصادر سنة 1975. وقد حرص تشريع الجنسية المصرية الحالى على الاستجابة للمعايير الأساسية التى يتعين توافرها فى تشريعات الجنسية المعاصرة سواء من الناحية القومية أو من الناحية الدولية. فمن الناحية القومية حرص تشريع الجنسية الحالى على الاستجابة لعاملين رئيسيين؛ أول هذين العاملين هو العامل الديموغرافى المتعلق بالكثافة السكنية ولضرورة تحقيق التوازن بين قدرات الدولة على سد حاجة المواطنين الأساسية من غذاء ومسكن آدمى وعمل وبين الكثافة السكنية المتزايدة التى تجازوت الحدود. كذلك أخذ المُشرع فى الاعتبار صعوبة اندماج الأجنبى فى الجماعة المصرية لما تتسم به من تقاليد عتيقة وأسلوب فى الحياة غير مألوف لدى المجتمعات الأخري. وهذا يتطلب الاستقرار فى الإقليم المصرى والمعيشة فترة لا يُستهان بها داخل الجماعة المصرية لكى يتحقق انصهاره فى تلك الجماعة. أما من الناحية الدولية فقد حرص المشرع على احترام المعيار الأساسى الذى أرسته محكمة العدل الدولية والمواثيق الدولية. ويتمثل هذا المعيار فى وجوب قيام جنسية الدولة على تحقق الرابطة الفعلية بينها وبين الفرد. بحيث إذا لم تتوافر هذه الرابطة يرفض المجتمع الدولى الاعتراف بهذه الجنسية. غير أنَّ مضمون الرابطة الفعلية أثار العديد من المنازعات أمام القضاء الدولي، واستقر قضاء محكمة العدل الدولية على تحديد مهم لهذا المضمون فى حكمها الشهير فى قضية نوتابوم حيث عرَّفت الجنسية الفعلية بأنها الرابطة التى تتفق مع الحالة الواقعية والتى تقوم على أقوى صلة حقيقية وفعلية بين الفرد والدول التى تتنازع جنسيتها. وعددت المحكمة بعض العوامل الأساسية التى تقوم عليها هذه الرابطة ومنها موطن الفرد، ومقر مصالحه، واشتراكه فى الحياة العامة، وما يبديه من ارتباط وتعلق بالدولة وبحياته الأسرية. وقد استجاب فعلا تشريع الجنسية الحالى لهذا المعيار من نواحٍ عديدة، فالجنسية المصرية لا تثبت للفرد إلا بالميلاد لأسرة مصرية، أى لأب مصرى أو لأم مصرية، وهو ما يُعرف بحق الدم، ولم يعتد تشريع الجنسية المصرية بالميلاد فى إقليم الدولة (حق الإقليم) وهو معيار تأخذ به الدول الأنجلو أمريكية خاصة تلك التى تسعى إلى دعم تعداد السكان بها. وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة على النص المقترح فى التعديل الصادر عن مجلس النوَّاب المطلوب إضافته إلى قانون الجنسية المصرية الحالى فى شكل المادة 4 مكرر، والذى يُقرر جواز منح الجنسية لمن يقوم بإيداع مبلغ سبعة ملايين جنيه على الأقل كوديعة ثابتة، لتبين لنا أن هذا التعديل لا يستجيب للمعيار الأساسى الذى يقضى بوجوب قيام الرابطة الفعلية التى حددتها محكمة العدل الدولية، والتى استقر العمل بها لدى القضاء الدولى بل ولدى مختلف الدول. ذلك أنَّ وضع مبلغ من المال فى بنوك الدولة أيًا كان قدره أو مدته ليس من شأنه تحقيق الرابطة الاجتماعية والروحية التى تتفق ومدلول الجنسية ومشروعيتها من الناحية الدولية. ومن ثمَّ فإنَّه لن يعتد بهذه الجنسية أمام القضاء الدولى إذا ما تمت منازعة بشأنها، وهو ما حدث فى قضية نوتابوم الشهيرة السابق الإشارة إليها والتى أصبحت مبدأ مستقرًا وملزمًا. ذلك أنَّ محكمة العدل الدولية لم تعتد بتمتع هذا الشخص بجنسية الدولة المعروفة بإمارة ليشتنشتاين التى منحته هذه الجنسية، وبَنَتْ المحكمة رفضها عدم الاعتداد بهذه الجنسية على أنها لم تقم سوى على إسهاماته المالية لتلك الدولة دون أى رابطة فعلية. إنَّ المستثمر واضع المبلغ فى البنوك المصرية بقصد الاستثمار قد لا يكون من مصلحته فى معظم الأحيان الدخول فى الجنسية المصرية، وهو ليس بحاجة للدخول فى هذه الجنسية للعمل على تحقيق مشروعه الاستثمارى إذ يكفيه لتحقيق هذا الهدف قدرته على الإشراف عليه عن قرب فى مصر وذلك إما بالسماح له بالإقامة بمصر خلال فترة إنجاز المشروع وإما تيسير حضوره إلى مصر كلما تطلب الأمر ذلك، دون الوقوع فى براثن البيروقراطية والابتزاز الذى يشل العديد من المشروعات المهمة. كذلك قد يتعرض المستثمر المتجنس بالجنسية المصرية لفقد جنسيته الأصلية إذ أصبح عددًا متزايدًا من الدول التى يفد منها المستثمرون الأجانب يسحب الجنسية عن أى مواطن يتجنس بجنسية دولة أخري. ومن ثمَّ فإن التلويح بمنح الجنسية المصرية لمن يقوم بوضع وديعة مالية فى بنوك الدولة ليس هو السبيل لجذب أصحاب رءوس الأموال المنتمين للدول الرأسمالية الراغبين فى استثمار أموالهم فى مشروعات تنموية، ولن يكون من شأن ذلك سوى حث فريق من الوافدين لمصر وخاصة طالبى اللجوء على وضع الوديعة المطلوبة التى قد تفتح الباب أمامهم للدخول فى الجنسية المصرية. لمزيد من مقالات د. فؤاد عبد المنعم رياض