صحيح أن الرئيس ترامب قد أعلن الحرب التجارية على الصين، وذلك بفرضه تعريفات جمركية بما يعادل(150 ) مليون دولار، على الواردات الصينية إلى الولاياتالمتحدة، وقد اتخذت الصين بدورها إجراءات تبدت فى فرضها بالمثل، تعريفات جمركية على (128 ) من المنتجات الأمريكية المصدرة إلى الصين، والصحيح أيضًا أن تلك الحروب التجارية ليست هى الأولى فى التاريخ العالمي، لكن الصحيح كذلك أنها ممارسات تخفى تآمرًا على شعوب العالم، دفعًا إلى حروب مصطنعة تؤدى إلى إبادة عامة لبعض شعوب العالم، تستهدف مزيدًا من النفوذ الوحشى سياسيًا، واقتصاديًا الطافح بشراسة مفرطة تستند إلى نظرية المليار الذهبى من البشر، حيث تقصى هذه النظرية حق مقومات النماء الإنسانى عن خمسة مليارات من سكان الأرض، البالغ عددهم ستة مليارات، وذلك لمواجهة اختلال التوازن بين التضخم الكمى للبشر، ونماء موارد الطبيعة التى لا تسمح سوى بتلبية احتياجات مليار واحد من البشر فقط، وهو ما يسمى المليار الذهبي، ويضم سكان الولاياتالمتحدة، وأوروبا، واليابان، أما المليارات الخمسة التى لا حق لها فى العيش، فسكانها هم شعوب العالم الثالث. استوفت هذه النظرية قاعدتها التأسيسية من النظرية التى طرحها العالم الإنجليزى مالتوس فى القرن التاسع عشر، ومفادها أن الثروات فى تناميها لا تتوافق مع سرعة تزايد السكان، وذلك ما يؤدى إلى تدرج فى نقصان الموارد الطبيعية اللازمة لحياة سكان الأرض؛ لذا فإن الحروب، والكوارث الطبيعية، والأوبئة تبدو- من منظوره- ضرورة موضوعية للإبقاء على التوازن بين الثروات وعدد السكان. صحيح أن نظرية المليار الذهبى من البشر، عرفت بالمالتوسية الجديدة التى تتأسس على الاصطفاء البشري، وفقًا لنظام فصل عنصرى عالمي، يفصل قلة من مالكى الحقوق، عن شعوب العالم الثالث الفاقدة للحقوق، وصحيح أيضًا أن هذه النظرية تعيد النظر فى طبيعة التاريخ الإنساني؛ بل تسعى إلى تغيير مجراه جذريًا بالقوة والحتمية، للاستيلاء على جغرافيا العالم الثالث لتصبح ثرواتها نهبًا وافتراسًا لقلة من محتكرى الحقوق، لكن الصحيح كذلك أن النظرية طرحت ثنائية لحدين فقط من المعادلة، هما الثروة والسكان، وتجاهلت الحد الثالث من المعادلة، وهو «عدالة توزيع الثروة» وذلك ما يؤكد امتداد اعتناقها لفكرة الالتزام بحماية الأقلية المالكة للثروات، وليظل العالم اسيرًا للحواجز التمييزية مهما تضاربت مع مرجعيات أى قيم. إن تجليات إحكام القبضة الأمريكية لوقف تضخم الزيادة السكانية فى العالم الثالث، وتأهبها الدائم انتباهًا للمخاطر المتعاقبة بسبب ذلك التضخم، يتبديان واضحين فيما تفصح عنه مذكرة هنرى كيسنجر، مستشار الأمن القومى الأمريكي، التى تحمل عنوان أثر زيادة عدد سكان العالم فى الأمن الأمريكى والمصالح الخارجية، التى تكشف عن المقاصد المستترة من دعوى المناداة بضبط تكاثر سكان العالم الثالث، بوصفها قضية تشكل رأس أوليات سياسة الولاياتالمتحدة، لما يمثله اقتران ذلك التكاثر باستهلاك الموارد، والثروات المعدنية من قبل تلك الشعوب، عن طريق التطور التكنولوجي، أو بسبب الحاجة إلى إعالة الأعداد المتزايدة من السكان، وذلك ما يعد تهديدًا مباشرًا للأمن القومى للولايات المتحدة، وحلفائها، لاعتماد بقائهم وتطورهم مستقبلاً على تلك المواد من بلدان العالم الثالث. وقد اعتمد مجلس الأمن القومى الأمريكى ما جاء بتلك المذكرة، مثمنًا المحاذير الواردة بها؛ بل أقرها استراتيجية قومية اتقاءً من احتمال وقوع ما لم يقع. إنها حرب مفتوحة على العالم الثالث، شعارها: كل شيء لنا، ولا شيء للآخرين ، حيث تتجلى سلطة أصحاب قناعة المليار الذهبى فوق سلطة كل البشر، إذ يمتلكون، ويتحكمون، ويهيمنون، ويبيدون البشر خارج حدود الحق. ويكشف عالم الاقتصاد، والناشط السياسى الأمريكى الشهير ليندون لاروش، عن سطوة تفكيرهم بأن هدفهم ليس استعمار مناطق معينة، وإخضاعها سياسيًا؛ بل يستهدفون إزالة كل ما يتصدى لسيطرتهم على المصائر والأقدار، ويعوق نهبهم الحر لكل ثروات الأرض، وسحق كل بقايا السيادة القومية، وتقليص عدد سكان العالم من البشر إلى أقل من مليار، وعلى سبيل المثال، يتبدى هدفهم فى أفغانستان والعراق، بأنهم لا يسعون إلى السيطرة على هذين البلدين؛ بل إزالة أمم قومية عن طريق قوى الفوضى والدمار. وإذا ما كان صحيحًا أن حرب الإبادة التى يستهدفونها تعتمد على الدفع بشن حملات متنوعة ومتعددة، تفجر تضليلا فى توجهات المجتمعات المستهدفة، ولوجًا إلى الفوضي، بوصفها قلب الرحى التى تقود إلى احتراب الكل ضد الكل، فالصحيح كذلك أن هؤلاء الذين يمارسون اغتيال حاضر ومستقبل المجتمعات التى تقع شعوبها خارج المليار الذهبي، لا يرتدون زيًا عسكريًا، ولا يحملون فى الغالب أسلحة، إنهم القتلة الاقتصاديون الذين تحوطهم هالات الاحترام والإجلال، ويصدرون عن سالف إضمار خفى، بارتكاب جرائم اقتصادية تفضى إلى موت الملايين من البشر، إنهم قتلة أربعة ملايين من أرواح شعب الكونغو، حيث مولت الشركات الغربية المتعددة الجنسيات، الميليشيات، وزعماء الحرب، لتأمين الحصول على الكولتان المعدن المستخدم فى الصناعات التكنولوجية المتقدمة، والألماس والذهب، هذه الحقيقة الصارخة الصادمة وغيرها من الحقائق، تناولها تفصيلاً كتاب لعبة قديمة بعمر الإمبراطورية الذى اشترك فى تحريره مجموعة من الكتاب، وأشرف على تحريره ستيفن هيات، إذ فضح الكتاب أسرار ذلك العالم الخفى للقتلة الاقتصاديين الذين يعملون فى خدمة نخبة صغيرة مسيطرة من المستحوذين، فى ظل اقتناع المليار الواحد من البشر الذى له حق العيش دون غيره. ومن المفارقات أن جون بيركنز بوصفه كان أحد القتلة الاقتصاديين؛ بل ومؤلف كتاب اعترافات قاتل اقتصادي، قد وضع مقدمة هذا الكتاب، التى يقول فيها إن القتلة الاقتصاديين يخدمون نخبة صغيرة من الشركات ذات التأثير الواسع، والتى تبغى مزيدًا من الربح والنفوذ، أى المحافظة على هذه الإمبراطورية وتوسيعها، وفى كتابه اعترافات قاتل اقتصادي، يروى قصة رحلته من كونه خادمًا لتلك الإمبراطورية، إلى داعية لصالح الشعوب المسحوقة والمستغلة. إن المؤلف الأمريكى روبرت برنارد رايش، فى كتابه الرأسمالية الطاغية، وتأثيرها فى قطاع الأعمال والديمقراطية والحياة اليومية، يؤكد أن الانعزال عن التأثيرات الاجتماعية لقراراتنا، يمثل جانبًا أساسيًا فى الرأسمالية الطاغية. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى