جلسا على الشاطئ صامتين، تقبض كفها على الرمل فى تلذذ غريب، تتفلتُ من بين أصابعها الرقيقة حباته الناعمة، بينما راح زوجها يدخن سيجارته بشراهة، وهى تهتز بين أصبعيه.. البحر أمامهما يُغرِق مداه، أخذ يخامرها شعور غاضب مبهم، تحاول القبض على أطرافه الزئبقية فلم تستطع.. هى وهو والبحر وصوت اصطدام الأمواج المتمردة الثائرة بمصداتها، نداءات الباعة السريحة، لغط الصبية وصياحهم، كل ذلك وغيره لم يترك لهما فرصة للتفكير فيما حدث أو مراجعته؛ فما حدث قد حدث وانتهى وصار واقعاً، أمر لا يمكن إنكاره أو تجاهله. ربما على غير توقع تمرُّ أمامهما شابة فتية رشيقة بلباس البحر، تخطر فى خطا غانجة، رمال الشاطئ تصفق على إيقاع خطواتها، تهذى التربة الملحة تحت قدميها البيضاوين، احتواها بنظراته الكاشفة فلمعتْ فى عينيه رغبة واضحة، أيقظتْ فى داخل زوجته غِيرتها الجامحة، تمتمتْ: « غلبت أنهيكَ والطبع فيك غالب، وديل الكلب لا ينعدل ولو... « تجاهدتْ تكتم بوادر غضبة، بل حاولتْ رسم بسمة مغرية على شفتيها الرقيقتين، ربما لتفصل بين لحظة آنية وأخرى آتية. تركته فى سرحته الشاردة يمصُّ سيجارته، وخطتْ نحو البحر مسرعة حزينة متوترة، التفتَ فلم يجدْها، سحب النفس الأخير من السيجارة، قذف بالعقب فارتشق برمل الشاطئ المبتل، ونهض يلحق بها، عازماً على مصالحتها، واضعاً فى اعتباره أن يحفظ بقايا كرامته المهانة؛ ففى الصباح فقدتْ سيطرتها على أعصابها؛ مدّتْ يدها وضربته كفاً على وجهه فتهدل شاربه، حينما تمادى فى معاكسة جارتها المهذبة فى الشقة المقابلة، التى دمعتْ عيناها متأثرة، دونما مراعاة لمشاعرها أو وجودها، مع أنهما كانا لا يزالان فى شهر العسل. ناوشت التساؤلات رأسه المجهد: لمَ حدث ما حدث؟!؛ فقد تزوّجنا بعد قصّة حُبِّ حالمة توشجتْ بلحظات رومانسية ناعمة، قصّة تناقلتها الألسنة فى حينا، هى امرأة غيور، أعرف ذلك وأحفظه، وأنا رجل نزق، لى نزواتى الصغيرة العابرة، هو قلبى مضمخ بهوى الحسناوات، فماذا أفعل فى طبع خلقه الله فيَّ.. ألا نتفق؟!، ألا يوائم بيننا الزمن؟!. راح ينقّلُ خطواتِه فى بطء، مُحاولاً أن يبدو فى حالة اتزان انفعالى.. يضع كفه مفرودةً أعلى حاجبيه ليحد بصره على شئٍ بعينه.. لكن بلا فائدة؛ مجرد شخوص وظلال، مظلات وكراسى، بحر وناس، عوّامات وأطفال يؤرجحها البحر، حقائب ومناضد متناثرة هنا وهناك.. نوارس وطيور، تهبط تباعاً فى خطوط منحنية، تلامس وجه الماء الأملس الرجراج، تلتقط ما تيسر، وتصعد محلقةً بثقة وفرح وجمال.. ضحكات لاهية وثرثرات فارغة تتمدد، تنداح فى الفضاء، يعلو الموج وبقايا كئوس، أعقاب سجائر، فوارغ معلبات، بعض ماء يتناثر بأيدى أطفال عابثين، جو ومناظر تثير فى النفس رغبة عارمة لاكتشاف سر هذا الالتحام بين البحر والرياح والشمس والبشر، رغم تقلبات الأحوال. بدا يومها منذ صباحه غريب الأطوار.. ها هو ذا نهارها يزحف إلى مشارف الغروب، يلامس أطراف الدجى، تتلون الأرض ببقايا أشعة الشمس الغاربة، وكأنها تحمل فى بطنها انفجاراً، قد يهلك الناس، يبتلع كل شئٍ، عواصف الرياح قد تأخذ فى أقدامها الراحة والسكينة وهدوء البال، لكنها عندما تتأمل أعماق الطبيعة وعناصرها تجدها جميلة، بل غاية فى الجمال. تحين منها التفاتة فتراه – زوجها – يدنو منها فرحاً فارداً ذراعيه، محاولاً استمالتها واكتساب مشاعرها.. راح وهو يضحك مازحاً يُلقى إليها بمكعبات الشيكولاته وعلب العصير.. شئ ما فى داخلها بدأ يستيقظ، يصحو، يتحرّك، يدفعها دفعاً إلى استعادة علاقتها به، وإجراء حساب الربح والخسارة فى هذه العلاقة، بل تذكرتْ ما حدث فى الصباح، جموح نزواته المتكررة، غيرتها الجامحة عليه، لكنها تماسكتْ فبدتْ امرأة هادئة عاقلة.. تتأمله صامتة فتتيقن من ذات النظرة النزقة المراهقة، ونفس الدعوة فى عينيه الفاجرة، ترتبكُ كالعادة فيرتسم الارتباك على قسمات وجهها وحركة يديها، يصيح فيها: انطقى، تكلمى، عبري؛ صمتكِ يخنقنى يا امرأة.. ردتْ فى هدوء، بصوت خفيض واثق غانج: - ألا تعلم أن نظراتك المحبة ولغتك الفاتنة يترجمها عقلى إلى هذا الحب الصامت؟! أنتِ الحب، وإن شابه الجفا. - أنتَ روحى، ولا روح سواكَ، أُحبُّ قلبك المضمخ بهوى النساء. راح يطوّح رأسه منتشياً يدندن: « شايف البحر... « يلوِّح بيديه مستعرضاً أمامها قوته الواضحة على مصارعة الأمواج، وخبرته فى السباحة والغطس.. رأتْ موجة آتية خلفه غاضبة، اسقطته.. هى لحظة طالتْ قليلاً – وكما يحدث على غير توقع – آتى صوته من بين الأمواج واهناً مستنجداً.. ثم انقطع تماماً، تراجعتْ مذعورة، شقت المياه، اتجهتْ إلى الشاطئ أشد ذعراً، تضرب كفاً بكف، وتهذى بكلمات مبهمة.