تعيش ليبيا اليوم واقعاً هو أقرب إلى الأساطير منه إلى الحقائق، حيث يُعاد النظر فى موقعها الجغرافى، وفى دينها، وفى انتمائها القومى، وفى علاقاتها الاجتماعية، نتيجة جملة من المخاطر تمثل زحفا من ثلاث شُعَب أولها منظم، وثانيها مدبر، وثالثها عشوائى عبثى، وأنواع الزحف الثلاثة السابقة من القوى الخارجية (الدول الأفريقية، والغربية، والجماعات الإرهابية العابرة للدول والقارات) يصاحبها هجوم داخلى منظم تحركه المقاصد السياسية والمصالح المادية، وكل هذا، ومع أنه مأساوى ومحزن، إلا أنه يشكل استمتاعا وفرجة لدى كثيرين، حين تحول إلى حالات من الفرح الظاهر بتنفيذ الخطط المرسومة، وإلى التَّرح المبطن لدى غالبيته الشعب الليبى، الذى يواجه مصيره اليومى ومستقبله المجهول وحده، الأمر الذى جعل منظومته المعرفية والقيمية ببعديها العربى والإسلامى، وحقيقتها الجغرافية بحكم الموقع فى إفريقيا، محل مراجعة، ونقد. لا نملك اليوم إلا أن نعلن آهاتنا من الوضع فى ليبيا، وهى بالتأكيد لن ترقى ما عبر عنه«على عزت بيجوفيتش الرئيس الأسبق للبوسنة فى كتابه زفرات البوسنة حين تعرض أهل بلاده إلى إبادة جماعية أمام مرأى دول الاتحاد الأوروبى، وداخل فضائها الجغرافى، وكان السبب دينياًّ أوَّلاً وعرقياًّ ثانيا، وذلك الاتحاد نفسه اليوم يسعى جاهداً لوضع خطة لتوطين المهاجرين الأفارقة، القاصدين أوروبا عبر سواحل البحر المتوسط فى ليبيا، مع أن ذلك يشكل خطرا ديمجرافيا على ليبيا التى تعانى من الفوضى والانقسام السياسى والصراع الأهلى، وتستوطنها قوى الشر مثل: داعش وأخواتها، وتحركها الفتن ببعديها القبلى والمذهبى، ويتحرك داخلها طوابير من الجواسيس من أجل معلومات تخدم مصالح الدول الكبرى خاصة فى مجال الطاقة. دُوَل الاتحاد الأوروبى، تبدو ظاهريا مختلفة حول الحالة الليبية لجهة التعامل مع مسألة الشرعية ونظام الحكم فيها، ولكنها مُتَّفِقة جماعيا، على أن تكون ليبيا أوطانا بديلة وليست وطنا واحدا فقط للمهاجرين الأفارقة، وفى النهاية تميل الكفّة لصالح العنصر الإفريقى على حساب السكان الأصليين من عرب وأمازيغ، والمُدْهش فى هذا أن الجماعات الإرهابية تخدم هذا المشروع الاستيطانى والاستعمارى الجديد، على النحو الذى شاهدناه فى عمليات القتل المتواصلة ضد الليبيين، والجنسيات العربية الأخرى، منها قيام تنظيم داعش بإعدام 21 مصرياً قبطياً فى 15 فبراير 2015، مما دفع السلطات المصرية إلى رد فعل عسكرى، وقبل تلك الجريمة وبعدها وقعت عشرات عمليات القتل للمصريين، والهدف من كل ذلك هو إنهاء الوجود العربى، وقد ظهر ذلك فى وقت مبكر على مستوى الخطاب السياسى الدولى من خلال تغيير اسم الوطن العربى إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ليبيا فى عهد معمر القذافى، كانت وجها مشرقا لقارة إفريقيا، بل إنها احتضنت كثيراً من دولها الصغيرة، وتحالفت مع دولها الكبيرة، وتجاوبت معها هذه الأخيرة أثناء حصارها من طرف الولاياتالمتحدة، كما أن ليبيا حرَّكت فى الأفارقة شعورهم بالتعاون والاتحاد، وحين حصل التمرد فى فبراير 2011، نبّه القذافى إلى أن الدول الأوروبية ستواجه بتدفق كبير من المهاجرين، ومع ذلك أجمعت على إسقاط نظامه ومحاربته، واليوم تعمل فرنسا بقيادة الرئيس ايمانويل ماكرون التى أسهمت بشكل مباشر فى الحرب وتبعاتها بقيادة نقولا ساركوزى على الدفع نحو إجراء انتخابات فى نهاية السنة الجارية على اعتبار أنها الحل الأمثل لانهاء الحرب الأهلية، وسيتم هذا دون العودة إلى الشعب الليبى، الذى تريده أوروبا، ومنها فرنسا أن يكون فى المستقبل المنظور مجرد عنصر ثانوى فى التركيبة السكانية. محاولة توطين المهاجرين الأفارقة قد لا تبدو ذات تأثير مباشر على السكان الليبيين فى الوقت الراهن على اعتبار أن عددهم يقارب الستة بالمئة من العدد الإجمالى للسكان، وكونها لم تحدث بعدها حتى نعرف نتائجها، ثم إنها عملية غير مُجْديَّة للمهاجرين لأن هدفهم الوصول إلى الدول الأوروبية هذا أولا، وثانيا: لأن أولئك المهاجرين يواجهون صعوبات جمة فى ليبيا، حتى إن بعضهم استعبد، لكنها تشكل خطرا حقيقيا فى المستقبل المنظور. المطلب الأوروبى دفع رئيس الوزراء الليبى فايز السراج إلى القول: إن ليبيا ترفض خطط الاتحاد الأوروبى الرامية لإنشاء مراكز مهاجرين على أراضيها، لمنع طالبى اللجوء من الوصول إلى غرب أوروربا، وأنها لن تخضع للإغراءات المالية. والسراج محق فى ذلك، وعلى جميع القوى السياسية الليبية وكذلك الدول العربية، خاصة المجاورة، أن تدعمه فى موقفه، قبل أن يتحول الاقتراح الإيطالى الخاص بإنشاء مراكز للمهاجرين فى ليبيا لحماية أوروبا من المهاجرين الأفارقة إلى واقع استعمارى جديد بيد إفريقية ودعم أوروبى، وقد يصبح بديلاً مقبولاً لدى الأممالمتحدة، وهى التى دعت إلى عكس ذلك حين طالبت بإيجاد سبل لإثناء المهاجرين وطالبى اللجوء من غرب إفريقيا عن الذهاب إلى ليبيا، باعتبارها نقطة المغادرة الرئيسية إلى أوروبا، حيث يتعرضون فى أغلب الأحيان لانتهاكات والاحتجاز على أيدى المُهرِّبين. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه