► د. بكر زكى عوض: الطغيان المادى انتشر بفعل الإعلام ► د. عبد الله النجار: يجب فصل المرتشين ومصادرة ممتلكاتهم هل أصبحت ظاهرة الرشوة والفساد المالي واستغلال المناصب للتربح غير المشروع آفة هذا الزمان؟! ولماذا لا يرتدع المرتشون رغم سقوط أقرانهم؟! ولماذا نُثقل على كاهل الأجهزة الرقابية التي لا تنام، ورجال الرقابة الإدارية الذين يضربون بيد من حديد ويقطعون رءوس الفاسدين، ولا نحاول تطهير البيئة التي تفرز مثل هذه العينات من الفاسدين؟ وما الأسباب التي دفعت إلى تنامي هذه الظاهرة الشائنة في حق المجتمع؟ وهل نحن بحاجة إلى مزيد من القوانين وتشديد العقوبات لردع المفسدين؟! أم اننا بحاجة الى إحياء منظومة القيم والأخلاق فى المجتمع لنجعل من كل إنسان رقيبا وبصيرا على نفسه؟ وما دور المؤسسات الدينية والفكرية والإعلامية في القضاء على ثقافة الفساد التي استشرت في المجتمع؟ وما السبيل إلى التنشئة الدينية السليمة وإحياء منظومة القيم الأخلاقية والتربية الأسرية السليمة لخلق نموذج قيادي طاهر اليد عفيف النفس؟! في البداية يلخص الدكتور بكر زكي عوض، أستاذ العقيدة والفلسفة وعميد كلية أصول الدين السابق بجامعة الأزهر، أسباب الظاهرة، ويقول: إننا نعيش مرحلة تبدلت فيها المعايير الأخلاقية بين البشر خاصة في الآونة الأخيرة، فبينما كان الإنسان يقيم على أساس المبادئ والأخلاق الحسنة، إذا به يقيم على أساس ما يملك من مال سائل متحرك، أو أصول ثابتة، وظهر الطغيان المادي في ثقافتنا الأخيرة، خلال ما نقرأ ونسمع، وأسهم الإعلام في الطغيان المادي، في كثير من الجوانب، (فالشقق لعظيم، والفلل للمستوى الراقى، والشواطئ والشاليهات للمحترمين)، وهذه العبارات يراد من ورائها (من يملك؟!)، وكأن من لا يملك ليس بعظيم ولا بمحترم ولا براق. ومن هنا بدأ السباق بين الناس على أساس من التربح والكسب، لا على أساس من القيم والمبادئ والأخلاق، واستحل البعض التربح والطرق المشروعة وغير المشروعة، ثم طرق الطرق غير المشروعة وأصبحت أحب إلى طائفة من الطرق المشروعة، لأن عائد غير المشروع أضعاف العوائد المشروعة، وليس أدل على هذا من أننا أصبحنا نقرأ ونسمع ونشاهد أرقاما فلكية تقدم كتسهيلات تجاوزت الملايين في بعض الأحيان. والمصدر الثاني الباعث على الكسب غير المشروع هو عدم الرضا فالذين سلكوا هذا الطريق لا يعرفون الرضا بما آتاهم الله، ولا القناعة بما رزقوا، وإنما تسلط الطمع عليهم وفقدوا القناعة، ومن فقد القناعة لا يشبع على وجه الإطلاق، وهؤلاء هم الذين ورد فيهم قول النبي، صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن يكون له اثنان، ولو كان له واديان لتمنى أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب»، هذه الطائفة التي سلبت القناعة، هي التي وصفت في كتاب الله بقوله: (وتحبون المال حبا جما)، ووصفت بقوله: (الذين يأكلون أموال الناس بالباطل). أما الباعث الثالث، فهو المطالب الأسرية في إطار المظاهر الاجتماعية فوق الطاقة، فحين تطلب المرأة من زوجها ما لايفى دخله به، وحين يطلب الأبناء من آبائهم ما هو فوق طاقتهم، مما يدفع الأب لمثل هذه السلوكيات. أما الباعث الرابع، فهو غياب القانون الرادع، فقد سمعنا عن عشرات ضبطوا ولم نسمع عن عقوبة واحدة وقعت، مع أن الإسلام أذن بإعلان العقوبة إذا كان في الإعلان ردع وزجر، كما في قوله: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، وسحب وسلب جميع الأموال من أموال زوجته وأولاده مما يملكون وبيعها لحساب خزينة الدولة. علاج الظاهرة وأوضح الدكتور بكر، أن علاج الظاهرة يتمثل في إحياء الضمير داخل كل إنسان، فليس بالإمكان أن تضع رقيبا على كل شخص، لأن الرقيب نفسه يحتاج إلى رقيب عليه، وهذا هو الأولى بالإحياء على وجه السرعة، قال تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)، فالرقيب (الضمير) خير ضابط لسلوك الإنسان، ثانيا: إحياء الوازع الدينى لدى الناس عامة، مسلمين وغيرهم، لأن الوازع الديني هو الذي سيجعل الإنسان يرى ربه في أي مكان، ويستحيي أن يقدم على المعصية، في ضوء قوله تعالى: (إن الله كان عليكم رقيبا)، ثالثا: اختيار الأكفاء لتولي مواقع المسئولية، فضلا عن الوظائف العامة، والكفاءة ليست مقصورة على المعرفة بقواعد العمل، بل الكفاءة الأدبية (الخلقية) إلى جوار الكفاءة العلمية، فإذا وسدنا الأمر إلى أهله استقامت الأمور، وإذا وسدناه إلى غير أهله، فانتظر الساعة، كما ورد في الحديث، وليس المراد بالساعة القيامة وإنما المراد سقوط المؤسسة التي يلي أمرها من ليسوا أهلا لهذه الأمكنة، من المرتشين والفاسدين وأصحاب النفوذ إلى آخره، ولابد كذلك من بيان حقوق العمل وواجباته، فالعقد شريعة المتعاقدين، ومن قبل أجرا محددا على العمل، فليس له أن يكمل أجره بالطرق غير المشروعة، من خلال الرشوة، وقد سميت بأسماء محمودة في الآونة الأخيرة، لتبرير قبولها، مثل (الشاي، القهوة، الهدية...الخ) بل وتقدم الرشوة أحيانا ويوظف الحديث النبوي توظيفا سلبيا لتبرير قبولها، مثل (تقديم هدايا عينية بدعوى قولهم: النبي قبل الهدية)، والسؤال المطروح، هل قبل رسول الله الهدية، ليسهل مشروعا معينا ليس لصاحبه الحق فيه؟! وأضاف: إن كل ما يقدم للموظفين على اختلاف صورهم هو درب من الرشوة ما دامت الغاية من ورائه جلب منفعة أو درء مضرة، ومن هنا لا تبرير لقبول أي شيء، من طريق الوظيفة، ومن يدفع ولا يطلب اليوم، بعد فترة سيكون له فضل على من تقاضي منه، وسيطلب منه حينها مقابل ما قدم، وقد نأى صلى الله عليه وسلم عن قبول هدايا العمل، وجعلها من الغلول أي الكسب الحرام، وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم، للذين يستحلون هذا: (هل لو جلس أحدكم في بيت أبيه وأمه حتى أتته هذه الهدية). رسالة للموظفين ووجه د. بكر، رسالة إلى كل موظفي مصر، إذا أردت أن تعرف المقدم لك، (رشوة أم لا)، فسل نفسك عندما يقدم لك شيء ما: لو لم أكن جالسا على هذا الكرسي، هل كان ذلك سيأتيني؟! إن كانت الإجابة بنعم فأقبل، وإن كانت الإجابة ب (لا) فاعلم أنها رشوة فلا تقبلها. مع دعائي لمصر وأهلها، بأنها ستظل بكل خير، آمنة، وأن عدد الفاسدين إلى عدد الصالحين لا يعدل شيئا على وجه الإطلاق، وأنهم نشاز المجتمع، ويكفي أن الكل يلفظهم ويرفضهم، ويلعنهم. سر اتساع الظاهرة من جانبه أوضح الدكتور عبدالله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية، أن الفصل من الوظيفة هو الإعدام لهذا الشخص الفاسد، وهو أدنى العقوبة، لأن الرشوة جريمة أشد خسة من السرقة، فمن يسرق يغافل شخصا ما، ولكن هذا يتاجر بحق الله، ويتلاعب بالمال العام، ففيها خيانة، وسرقة، وسفاهة، وهي جريمة خسيسة، لأن (الإسلام سمى الوظيفة العامة أمانة)، وفصل المجرم، هو عقوبة تعزيرية ومنصوص عليها في القانون، كما أن (إجراءات الرقابة الإدارية) تدخل ضمن الإجراء العقاب الشرعي التعزيري في هذا الأمر، مما يجعل هذه الإجراءات من ضمن العقاب ضد المرتشين، لكونها تدخل في باب التعزير، وهو مقرر شرعا. وبخلاف الفصل من العمل، يجب ألا نتركه يفلت بكل ما استولى عليه من أموال، وعلى المسئولين سحب ماله بالكامل، بحيث يرد إلى أصحابه، فالرقابة الإدارية لديها، إجراءات معلومة لدى المسئولين، كما أنهم يرون حركات (نقل الأموال المحصلة) من الجريمة، ويردونها إلى الدولة، والقاعدة الشرعية تقول: (يعامل المرء بنقيض قصده)، فهو قصد التربح، وعلينا أن نخيب عليه قصده، فلا يجوز أن يستفيد المجرم من جريمته، وكل ما يحصله يرد، وبعد ذلك نترك الأمر للقضاء المصرى. تدابير وقائية وزجرية في سياق متصل يقول الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن الشريعة الإسلامية جعلت تدابير وقائية وأخرى زجرية، فلا بد من وجودهما معا في جرائم (أكل أموال الناس بالباطل)، أما التدابير الوقائية، فتنمية الوازع الديني، كعرض النصوص الشرعية والقواعد الفقهية، وبيان التداعيات للاجتراء على المال سواء العام أو الخاص بغير وجه حق، قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، وقال صلى الله عليه وسلم (كل جسد نبت من حرام فالنار أولى به)، ولو أحسنا عرض التدابير الوقائية إلى التوعية الدعوية والإعلامية.