في مقال له عام 2008 تحدث المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري عن "الحقائق الكاذبة: true lies"، وهي حقائق جزئية قائمة على الانتقائية، إذ تركز على جانب من المشهد، أو جزء من الحقيقة، بينما تتغاضى عن ذكر جزء آخر مهم منها، أو تقوم بنزعه من سياقه، أو توجهه وجهة (أحادية) بشكل معين، كي تبدو منطقية، ومقبولة. ومن ثم يتم توظيفها في توثيق أي أطروحة أو رؤية أو وجهة نظر، أو سياسة، أو ممارسة، مهما كان زيفها، وتبرير سلوك أصحابها مهما كان خاطئا. وفي جانب عريض من ممارساته، لم يفعل الإعلام المصري المكتوب ذلك فقط (تقديم الحقائق الكاذبة) بل فعل ما هو أسوأ بعد الثورة، إذ كان يلجأ في بعض الأحيان إلى اختلاق الأكاذيب اختلاقا، أو تقديم وجهات النظر على أنها حقائق، أو عرض المعلومات الناقصة على أنها حقائق كاملة، برغم ثبات زيفها، وبهتانها، وتلفيقها. فيا لخسارة دماء الشهداء التي جادوا بها؛ حقا، ليقوم نظام صحفي جديد؛ يقدم الصدق والدقة والمسئولية، فإذا بالمصري المعاصر يجني صحافة تقوم على أنصاف الحقائق، وصنع الأكاذيب؟ تلك ليست مبالغة.. إنها جزء من تشخيص الواقع، في الصحافة الورقية -على الأقل- التي تبارت - في جانب كبير منها - في تقديم كل ما هو سوداوي، وهدام، ومشعل للفتنة، والفوضى.. في انحراف واضح عن مقاصد الثورة، من أجل تحقيق مكاسب رخيصة، والنيل من خصم سياسي، (في الغالب التيار الإسلامي)، حتى لو كان ذلك على حساب الحقائق المجردة، والمعلومات الموثقة، والأدلة الدامغة، والبينات الواضحة، وبارتكاب سائر الموبقات المهنية. إنه واقع مظلم عشناه منذ 25 يناير 2011 ، وما زلنا نتجرع مرارته حتى الآن، دون أن يتوقف هذا الإعلام المكتوب الفاسد، ولو لمجرد مراجعة النفس، وتقويم الأداء، وإصلاح الأخطاء .. التي صارت تتراكم يوما بعد يوم. ولأن الصحافة مهنة "احتساب لا اكتساب"، يتطلع المرء إلى صحافة وطنية أكثر مهنية، وأقل انحيازا؛ تؤدي دورها التزاما بالحيدة والموضوعية، وتجنب النظرة الأحادية، والشخصنة، والتحريض، والانحياز الأعمى للأفكار المسبقة، والمصالح الضيقة للأحزاب ورجال الأعمال، والأجندات والأيديولوجيات، والتوجهات المتطرفة. لعله إذن يوم قريب ذلك الذي يصبح لدينا فيه صحفيون يخلصون للمهنة، ويلتزمون بمواثيق شرفها، محاربين الفساد واختلال المعايير، داخل المؤسسات الصحفية، وبين أبناء المهنة، بما يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد الصحفي، وإقامته على قواعد المصداقية، والنزاهة، والإخلاص للحقائق النزيهة. ذلك أمل كل مواطن حر .. أن تصبح الصحافة المصرية إذن موضوعية، وألا تتعصب لرأي واحد في الموضوعات الخلافية، وأن تنقل الوقائع بإنصاف، والأحداث بتجرد، والآراء باعتدال. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد